الحلقة 29 - التحطّم

9.4K 139 5
                                    

ريان تشتاق إلى ماردين كثيرا، هي الآن و كأنها منقسمة إلى نصفين، جزء منها يربطها بهذه المدينة و الجزء الآخر يسحبها إلى تلك الشوارع الساحرة التي كبرت فيها. هي مشتتة لدرجة أنها لا تحس نفسها تنتمي لأي مكان و كأن الرياح تعصف بها من مكان لآخر.
بدأ الثلج يهطل في إسطنبول بشدة، نظرت ريان إلى الساعة المعلقة على الحائط. الساعة تجاوزت منتصف الليل بقليل و ريان لا يراودها النوم و تجلس بمفردها أمام النافذة. تشاهد الثلج الذي ينزل و هدوء الشارع أو أنها تقنع نفسها بهذا، هي لا تريد التفكير ببعض الأشياء لأنها إذا فكرت تحس و كأنها ستفقد عقلها.
هما معا لوحدهما تحت سقف هذا البيت مجددا، ميران و ريان و طفلهما الذي لم يولد بعد، مثل عائلة صغيرة. ابتسمت ريان، في الواقع هذه الحقيقة فقط تكفي لجعلها سعيدة و لكن تتخبط في داخلها منذ ليلة البارحة، إنها تُسْحَقُ تحت وقع الجمل القذرة التي قالها لها السيد وحيد. هي نادمة لأنها وقفت أمامه محنية الرأس و لم تدافع عن نفسها بكلمة واحدة حتى. كل كلمة لم تقلها في تلك اللحظة تحرق لسانها الآن. حتى لو كان ميران قد طرد عمه أمام عينها فهذا لا يكفي بالنسبة لريان، الألم الذي بداخلها لا يهدأ أبدا... خرجت من غرفة النوم خوفا من أن توقظ ميران و جاءت إلى هنا و لكن الجلوس في غرفة مظلمة مطولا أزعجها كثيرا. في تلك اللحظة خطرت على عقلها غرفة عمل ميران و المكتبة الكبيرة بداخلها، ربما قراءة كتاب ستؤنس وحدتها و تؤمن تخلصها من هذه الأفكار. من يعلم؟ أليست الكلمات هي أقوى سلاح؟ نهضت من الأريكة التي كانت تجلس عليها و إتجهت إلى غرفة المكتب، نزلت الدرج على أطراف أصابعها ثم فتحت الباب و نظرت حولها. لقد تم تنظيف البيت اليوم و أصبحت رائحته مثل الورد، عيناها التي إعتادت على الظلام بدأت تبحث عن مكان زر تشغيل النور و حينها أحست بيدين تحاوط خصرها فإرتجفت للحظة. اليدان التي تعرف من هو صاحبها كان يحبس ريان بين ذراعيه حتى أنها تمايلت برائحته التي تسللت لأنفها. لا تعرف متى و كيف إستيقظ ميران و لكنها لم تهتم. عندما أدارت ظهرها و نظرت إلى وجهه كانت عيناه تُبرز زرقتها و جمالها حتى في الظلام. قال ميران:
"ماذا تفعلين؟"
كان صوته مليئا بالنوم و على وجهه إبتسامة تحرق القلب.
"لا شيء... أعتقد أن نعاسك قد هرب؟"
في الواقع ريان فرحت بإستيقاظ ميران، لأنها لم تنم أبدا و شعرت بالملل بمفردها. أحاطت ريان رقبة ميران بذراعيها فإبتسم الرجل الشاب أمام هذه الحملة. و لأنه لا يرى وجهها جيدا في الظلام إقترب منها أكثر و سحبها نحوه قائلا:
"ألا يجب أن أسألكِ أنا هذا السؤال؟"
"لا يراودني النعاس"
كيف لها أن تنام؟ بينما لم ينطفئ الحريق الذي بداخلها كيف ستلجأ إلى أحضان صاحب العينين الجميلتين؟
حتى لو كان هذا الجواب غير كافي بالنسبة لميران فإنه لم يصر كثيرا لأنه يرى أن ريان مهمومة، ربما مازال عقلها في الحقارة التي وجهها لها عمه، ميران لا يستطيع فعل شيء، مهما قال لا ينفع... أنهت ريان لحظة الصمت بينهما قائلة:
"قال لك الطبيب أن لا تنهض من سريرك لعدة أيام و لكنك تتجول في البيت و كأن شيئا لم يكن"
وضع ميران شفتيه على شعر ريان و قال:
"أنا بخير يا جميلتي، الأطباء يبالغون، ألا تعرفين هذا؟"
"هااا أنتَ تعرف كثيرا... تتحدث و كأنك أُصِبْتَ من قبل و تعرف ما عليك فعله"
"ليس من الضروري أن نجرب شيئا كي نملك معلومات عنه"
ثم مد ميران يده و ضغط على زر الضوء ثم نظر لريان قائلا:
"ماذا كنتِ ستفعلين هنا؟"
"كنت سأنظر إلى الكتب"
قالت ريان هذا في خجل ثم إبتعدت عن ذراعي ميران و اتجهت نحو المكتبة التي تغطي الحائط. كانت عيناها تلمع من إعجابها بها، هي أيضا كانت تملك مكتبة صغيرة خاصة بها هي و هافين في ماردين. بدأت ريان تجول أصابعها بين الكتب ثم قالت:
"لقد حققتَ حلمي، لأول مرة أرى كل هذا العدد من الكتب"
"لا تفعلي يا ريان... و كأنكِ ترين هذه المكتبة لأول مرة؟"
كان ميران يعلم أن ريان تحب قراءة الكتب، من يعلم كم مرة قلّبت هذه الكتب عندما لا يكون في المنزل، كل هذا لم يهرب من إنتباه ميران أبدا. هذه المكتبة الرائعة المليئة بالكتب هي خاصة بميران و في معظم تلك الأوقات الحساسة التي أمضتها ريان عند قدومها إلى هذا المنزل كانت تخفف عن نفسها بقراءة بعض الكتب و لكنها مازالت ترغب بالمزيد... أدارت ريان ظهرها لميران و ضحكت، إنها لا تنجح في الكذب و عادة ما يحمر وجهها. قال ميران وهو يستفزها بإبتسامته:
"هيا إعترفي... لحظة خروجي من البيت كنتِ تركضين نحو هذه الغرفة أليس كذلك؟"
وضعت ريان عينيها في الأرض و كانت تمسك نفسها بصعوبة كي لا تضحك، ثم همست:
"أنتَ غدّار... كنتَ تعرف أنني أحب الكتب و مع ذلك لم تقل لي أنه بإمكاني الدخول إلى هذه الغرفة. لو قلتَ هذا ما كنتُ سأضطر على الدخول خلسة"
"أنا أعطيتكِ هذا البيت بأكمله أيتها المشاكسة"
ثم ضحك ميران، محاولة ريان الطفولية و اللطيفة للدفاع عن نفسها كانت تعجبه، ثم واصل كلامه:
"غير ذلك أنا لا أتذكر أنني قلت لكِ لا تدخلي إلى هذه الغرفة"
"و لكنكَ لم تقل أدخلي أيضا"
"هل كان يجب أن أعطيكِ تأشيرة للدخول؟"
"هذه الغرفة لكَ و أنا كنتُ أخاف منكَ... يعني في الماضي... الآن لا أخاف"
"أنظروا لها..."
إقترب منها ميران كثيرا و أغلق المسافة التي بينهما ثم وضع يديه على حافة الرفوف و حاصر ريان بين ذراعيه:
"إذا أنتِ تخافين مني؟"
"قلتُ لك أن هذا كان في الماضي، أنت لست رجلا يُخَافُ منه"
"أساسا لا أريد أن أكون رجلا كهذا"
قال ميران هذا ثم أنزل يده و أمسك أصابع ريان الرقيقة قائلا:
"إمشي أمامي أيتها المشاكسة الصغيرة، لقد حان وقت نومكما"
صيغة الجمع التي تكلم بها جعلت ريان تبتسم، ريان و طفلها. ميران، ريان و طفلهما، يالروعة هذه الكلمات... خرجت ريان من غرفة المكتب وراء ميران وهي تمسك يده. قال ميران:
"بعد الآن تستطيعين قرائة ما تريدين في أي وقت... و لكن ليس في منتصف الليل، أنا أقلق عندما لا أراكِ ألا تعرفين هذا؟"
عندما بدأت ريان تضحك بصمت توقف ميران في الدرج و أدار ظهره و نظر بغرابة لريان التي تضحك على كلامه:
"هل قلتُ شيئا مضحكا؟"
"لقد بدأنا ننام معا في نفس الغرفة قبل يومين فقط يا ميران... و أنت تقلق عندما لا تراني و كأننا زوجان منذ أربعين سنة"
واصلت ريان ضحكها أما ميران فقد أدار ظهره منزعجا و لكن لم يظهر لها ذلك ثم قال:
"أقول هذا كي لا تفعليها مرة أخرى"
"حسنا" مازالت ريان تضحك بشدة: "ليكن كما تريد"
"عندما يجتمع الإنسان بحبيبته في لحظة، يصبح مجنونا"
وصلا إلى غرفة النوم و هما يتناقران، ريان مازالت تقول أنها لا تريد النوم أما ميران فقد نام بما فيه الكفاية طيلة اليوم، غير ذلك ليس لديه هم الذهاب إلى العمل في الصباح الباكر، مازال لم يتعافى بعد، على الأغلب لن يناما الليلة... نزعت ريان خرقتها و وضعتها على حافة السرير دون أن تدرك أن ميران يشاهدها. عندما أدارت ظهرها و جاءت عينها في عينه توقفت، لقد كان ينظر لها بإعجاب كبير، تلك النظرات تثقب قلبها و كأن الدنيا توقفت في هذه اللحظة. اقترب منها ميران رويدا رويدا ثم وضع يديه على خصر ريان و سحبها نحوه برقة. أحسّ بأنه مشتاق لها كثيرا، اشتاق لها مثل المجانين... أخذ بين يديه خصلات شعرها المتناثرة على وجهها و وضعها خلف ظهرها و كان قلبه ينبض بشدة من حماسه. هذه الفتاة الصغيرة، كيف لها أن تسوّيه بالأرض بنظرة واحدة منها؟
قال ميران بصوت عاجز و مستسلم تماما:
"أنتِ... كيف تفعلين هذا؟... أنتِ تقتلينني"
مهما كانت هذه الكلمات مليئة بالحب إلا أن ريان توترت، إنها تتذكر جيدا كيف كانت تشاهد ميران وهو في غيبوبة بعينيها الدامعتين من وراء الزجاج قبل بضعة أيام، لقد أحست بألم حياتها و لا تستطيع أن تنسى تلك اللحظات... أغلقت ريان شفتي ميران بإصبعها و كان الخوف يملأ عينيها ثم قالت :
"إياك أن تتكلم عن الموت مجددا"
قبّل ميران أطراف أصابع ريان التي على شفتيه و قال:
"أنتِ محقة يا صغيرتي... لقد إجتمعت بكِ للتو"
ثم أخذ يد ريان بين يديه و وضعها على بطنها و أكمل:
"أين سأذهب و أترككما؟"
وضعت ريان يدها الأخرى فوق يد ميران على بطنها و بقيت تنظر له. هي الآن مع الرجل الذي تحبه، تلك الأيام التي بقيا فيها بعيدين عن بعض لكيلومترات تحت هذا السقف قد بقيت في الخلف، إنتهى الشوق... نظرات ريان له الشاردة أقلقت ميران فسألها قائلا:
"ماذا هناك؟"
"أنا أفكر"
"بماذا تفكرين؟"
"أول يوم رأيتك فيه..."
ذلك اليوم الذي تغيرت فيه حياتها في ليلة واحدة، كان منتصف الليل و لم تشعر بالنعاس، فتحت نافذة غرفتها و بقيت تنظر للسماء، لم تلاحظ حتى الآن ذلك الرجل الذي كان يشاهدها في سيارته.
"كان المطر شديدا في تلك الليلة، جلست في نافذتي و كنت أشاهد السماء و..." ثم إرتسمت إبتسامة على شفتيها و أكملت: "و رجل لا أعرفه كان يراقبني..."
ميران أيضا إبتسم لأنه هو كان ذلك الرجل، كان ذلك اليوم الذي بدأت فيه هذه الحكاية الحزينة، اليوم الذي أقسم فيه على الإنتقام و أدخل فيه ريان إلى لعبته، ذلك اليوم الذي لم يستطع أن يُسكت فيه الرجل السيء الذي كان بداخله... واصلت ريان كلامها:
"العاشر من شهر أيلول... بقيت دقائق معدودة لطلوع الشمس، حينها رأيتُ عينيك لأول مرة، حينها نذرت عمري لتلك العينين"
تلك أول مرة سلمت عمرها لهذه الكذبة، أول مرة خُدِعت فيها، لا توجد أي كذبة تصبح حقيقة بهذا الجمال... ارتسمت إبتسامة أليمة على شفتي ميران ثم وضع أصابعه بين خصلات شعرها الأسود ثم قال في داخله:
"تلك الأوقات التي خدعتكِ فيها و نسيت فيها رجولتي و تصرفت معكِ بحقارة"
لكن لم يستطع قول هذا لها و لم يكن يريد أن يخنق ريان بذكريات الماضي، الأن لا يوجد في عقلها غير اللحظات الجميلة مع ميران، لأنها مسحت كل الذكريات السيئة المتعلقة بهذا الرجل عندما كانت تنتظره باكية أمام العناية المركزة. و لكن مهما سامحته ريان فإن ميران لن يسامح نفسه أبدا.
"و أنا نذرت لكِ نفسي دون أن أدرك ذلك"
ذلك الإحساس الذي يقبض قلبه عندما يرى عينيها كان يسميه حب الإنتقام، بقيت ريان صامتة فأكمل ميران كلامه:
"كلما نظرت لكِ أقول نفس الشيء... عيناكِ هما موتي"
ثم وضع قبلة على جبين المرأة التي تبعد عنه بمقدار نَفَس، كان هناك حريق كبير في قلبه، لأول مرة ميران كارامان يحترق بنار الحب و ليس بنار الإنتقام.
وضع ميران يده على وجنة ريان ثم أغمض عينيه، هو الآن يريد أن ينظّف الجسد الذي وسّخه بالمشاعر القذرة، بلمساته المليئة بالعشق. إنه يريدها، بلا حساب ولا كتاب... و أخيرا إتّحدت شفتاه مع شفتيها التي بقي مشتاقا لها، كان جسدها يرتجف بين ذراعيه مثل عصفور خائف، ثم وضع ميران أصابعه على كتفها و نزع قميص نومها السّتان بكل رقة... كلاهما يريدان أن يرتويا هذه الليلة من عشق زهرة الثالوث الذي أحرقهما.

زهرة الثالوثحيث تعيش القصص. اكتشف الآن