الحلقة 39 - تذكريني بشكل جميل

9K 122 23
                                    


ميران كارامان لم يكن يعرف ما معنى الحب ولا معنى أن يحبه  أحد، عندما كان يبكي لم يجد حضنا دافئا يواسيه لذلك نسي ذرف الدموع مع الوقت، ما بعد ذلك كله حزن و وحدة. منذ ذلك اليوم أحاطت أشواك الكره القاسية بقلبه و روحه الجريحة فتحت أحضانها للظلم.
بعد عدة سنوات فتح غطاء الجرة التي جمع فيها كل لحظاته المؤلمة ثم بدأت جروحه تتحول إلى عشق، أصبح أسير ذلك الحب الذي ظن أنه غير موجود أبدا بداخله. تعلم البكاء من جديد، الحب و المحبة... أحس بمعنى الفقدان حتى النخاع، و في النهاية أصبح ميران كارامان رجلا كما يجب أن يكون.
بعض الناس لا يتحملون رؤية بعضهم البعض، هذا الإحساس يتغذى من براعم الكره. ترفض العين أن ترى و ترفض الأذن أن تسمع. كل ما يحس به الإنسان هو تلك المشاعر السيئة التي تكبر بالعداوة، هذا هو الوضع بالنسبة لميران. لم يغذي بداخله سوى الكره و الحقد تجاه هذا الرجل الذي أمامه، لأن هذا الرجل كان عدوه، هل يحس الإنسان بأشياء جيدة تجاه أعدائه؟
الحقيقة التي عرفها بخصوص ماضيه سقطت مثل الصاعقة في منتصف حياته، لم يتقبلها و على الأغلب لن يتقبلها... هو يريد أن يذهب الآن من هنا و لكن لم يستطع، لا يمكنه الذهاب. هناك أسباب تربطه بهذه المدينة، لقد أصبح مجبرا على البقاء هنا و الآن هو ينتظر ما سيقوله الرجل الذي يجلس أمامه، يريده أن يقول ما سيقوله بسرعة كي يذهب. ريان تنتظره في المستشفى، سيأخذها و يذهبا إلى الفندق.
السيد هازار إستدعى ميران إليه بحجة أن لديه أشياء مهمة ليقولها له، كان هذا صعبا و لكنه نجح في ذلك، هو سعيد جدا الآن، إبنه يجلس أمامه. حتى لو كان ينظر له بشكل سيء يكفي أنه يتنفس معه نفس الهواء. عندما نظر له ميران و كأنه يقول: هيا قل ما ستقوله، دخل السيد هازار في الموضوع مباشرة، و الحال قد طلب كوبان من الشاي ظنّا أنه سيشربه مع إبنه بشكل مقابل و لكن ربما ميران لن يتحمل رؤية وجهه حتى قدوم الشاي... قال السيد هازار:
"هل تعرف من الذي أطلق النار عليك؟"
عندما قال نظر له ميران في دهشة، عينا إبنه الزرقاء الجميلة ذكرته بالمرأة التي أحبها في الماضي، أي والدة ميران.
لو كان الرجل الذي يجلس أمامه مازال يحمل صفة العدو، من المؤكد أن ميران كان سيجيب على هذا السؤال. و لكن لم يبقى بداخله شك تجاه هذا الرجل في هذا الموضوع منذ أن عرف أنه والده و سبب قدومه إلى هذه الدنيا، لا يمكن أن يكون هازار شانوغلو هو من أطلق النار عليه، لقد كان ميران أعمى لدرجة أن لا يفهم هذا عندما كان يتشاجر مع ريان وهي تقول له ليس أبي من أطلق النار عليك.
ميران يعرف أنه ليس هازار شانوغلو من أصابه بالرصاصة و لكن بعد ذلك لم يجد الوقت ليفكر بمن فعل هذا، كان رأسه مشوش لدرجة... أساسا الشرطة لم تجد أي دليل حول هذا و تم إغلاق الملف ضد مجهول، و الآن من الواضح أن هذا الرجل قد عرف شيئا لا يعرفه ميران. نظر للحظة إلى النادل الذي يضع الشاي أمامهما ثم وجّه نظراته إلى السيد هازار، ترى مالذي يعرفه؟ لم يكن لدى ميران عدو آخر.
"عمن تتحدث؟"
أخذ السيد هازار نفسا عميقا، ليس لديه وقت ليلعب بالكلمات، هو يريد أن يفهم إبنه جدية و خطورة الموضوع كي يأخذ إحتياطه و يحمي نفسه لأن عدوه الحقيقي بجانبه تماما و لكن ميران لا يراه.
"أتحدث عن وحيد كارامان، الرجل الذي على أساس أنه عمك. ذلك الديوث الحقير"
عندما قال هذا إرتفعت دهشة ميران، الذي يتهمه هذا الإتهام الكبير هو عمه، الرجل الذي ظن أنه عمه الحقيقي حتى هذا الوقت و لكن هو في الحقيقة لا يعني له شيئا. أساسا منذ أن وعى على نفسه لم يتفقا أبدا، هو كان مدركا أن عمه لم يحبه و لا يطيقه أبدا. كان يتصرف و كأنه يعلم منذ سنوات أن ميران ليس إبن أخيه، و لكن ميران متأكد أن عمه لم يكن يعلم بهذه الحقيقة، لو كان يعلم ماكان سمح لميران بالعيش حتى.
عندما قال السيد هازار أن وحيد هو من أطلق النار عليه، دخل الشك إلى قلب ميران و لكن لم يُظهِر هذا. من الممكن أن عمه لا يحبه أبدا و لكنه ليس مجرم لدرجة أن يحاول قتله، على الأقل ميران يصدق هذا، يريد أن يصدقه... عبس وجه ميران و قال بصوت واثق:
"عمي لا يفعل شيئا كهذا، يفعل كل شيء و لكن لا يحاول قتلي"
"حسنا من الذي أمر بإطلاق النار عليك إذا؟ من حاول قتلك؟"
لا يوجد إجابة لهذا السؤال. حتى أن ميران قد بدأ يشك بعمه بعد هذه الكلمات و لكنه لن يُظهِر هذا للرجل الذي أمامه.
"إهتمامك بهذا الموضوع لا يعحبني"
قال ميران هذا كي يغلق الموضوع، أساسا هو لا يتقبل بعد وجود هذا الرجل في حياته، كلما رأى وجهه يتذكر ما قبل سنوات، لا يتشكل في عقله إلا مشهد قتل هذا الرجل لوالده. كم هذا غريب، و الحال أنه كان صغيرا جدا آنذاك لدرجة أن لا يتذكر ما حدث، و لكن ما رآه زعزعه من الأعماق لدرجة أنه كلما كان يكبر كان ذلك المشهد يتشكل بطريقة أوضح في عقله.
"لن أقوم بهذا الحديث مع رجل مثلك... عندما أرى وجهك لا أتذكر شيئا سوى أنك قاتل"
ثم نهض ميران من كرسيه دون أن يشرب قطرة من الشاي، طعن خنجرا في قلب أبيه و أدار ظهره للذهاب. حتى لو لم يُظهِر هذا فإنه هناك طفل صغير يبكي دما وراء هذا الوجه القاسي. والده الذي عرفه كعدو له هو من يجعله ينزف، الله يعلم كم هذا صعب، مثل الموت. كيف سيتقبل هذا؟
"سأحميك... أنت إبني أنا، أنكر هذا بقدر ما تشاء و لكن أنت إبني"
كان الرجل الذي تركه وراءه يقول هذا، مهما أدار هذا الطفل ظهره له هو سيقوم بأبوته له التي حُرِم منها طيلة 28 سنة، سيكرس كل أنفاسه لحماية ميران. و لكن هو أيضا نفذ صبره، ضرب بيده على الطاولة وهو يصرخ وراء إبنه. هذا الرجل ينزف منذ سنوات، لماذا ميران يعذبه أكثر؟ لقد مات أحمد كارامان مرة واحدة و لكن هذا الرجل مات كل يوم منذ أن قتله، مرت كل لياليه في رؤية الكوابيس طيلة سنوات. كيف له أن يعرف؟ ليت ميران يستمع له و يفهمه.
توقف ميران للحظة في مكانه، صوت والده المتمرد كان يحرق مشاعره التي يحبسها بداخله بصعوبة، و كأن قلبه ينزف دما و يموت رويدا رويدا. ضغط على يديه ثم نزلت دمعة من عينيه و لكن والده الذي أدار له ظهره لن يرى هذه الدمعة أبدا...
*******
الحياة مليئة بالمعجزات، لا يوجد أي حلم لا يتحقق عندما يريد الله هذا، قوة الدعاء تكفي لفتح الأبواب و هذا الدعاء أضحك وجه أب و أم بعد إنتظار صعب لعدة أيام. إنتظارهما المؤلم كل يوم في هذا المستشفى أخيرا سينتهي بسعادة اليوم. ميران و ريان سيُخرجان طفلتهما التي إستعادت صحتها، كم كانت صعبة هذه الأيام و كم ذرفا من الدموع وراء ذلك الزجاج الذي يفصلهما عن إبنتهما و لكنهما محظوظان مقارنة بالعديد من الآباء و الأمهات لأنهما شهدا على نهاية إنتظار حزينة للبعض منهم.
لم يتغير شيء في هذه الأيام التي مرت، ميران رفض جميع مكالمات والده له طيلة شهر كامل و تجاهل وجوده أمامهما و لم يسمع شيئا من كلامه. لا أحد غيره يعرف أنه تذهب روح من روحه أثناء فعله لهذا، الجميع يظنه بلا شعور حتى ريان و لكن هو كان يؤلم نفسه بالأكثر حين يرفض والده.
منذ ذلك اليوم كان ميران و ريان يمضيان لياليهما في الفندق و في النهار يبقيان في المستشفى. كانت السيدة زهرة و بديرهان و هافين يرافقونهم دائما أثناء هذا الإنتظار، عندما عرفا أنهما سيحتضنان إبنتهما شعرا و كأنهما وُلِدا من جديد، لقد قبل الله دعائهم، بعد كل ذلك الألم دخلت الفرحة إلى قلوبهم.
ألبسوا الطفلة الصغيرة ثيابها بحماس كبير، كانت جوناش تبدو جميلة جدا داخل البطانية الزهرية التي لفّتها بها جدتها السيدة زهرة. كانت ذات خدود وردية و فم على شكل قلب صغير، لم يستغرب أحد عبوس وجهها عندما تنام، إنها تشبه والدها في كل شيء، عيناها أيضا مثل عيني ميران، زرقاء مثل البحر، أما شعرها الأسود فقد أخذته من أمها و أبيها.
عندما تلمس ريان طفلتهما كانت مترددة جدا، هي قلقة و كأنه إذا لمستها ستؤلمها لهذا السبب جعلت أمها تلبسها ملابسها، بينما كانت تشاهد ريان أمها وهي تُلبس إبنتها كانت تحذرها كثيرا، أما السيدة زهرة فقد غضبت من هذا، في النتيجة هي أم ذات تجربة و قد قامت بتربية طفلين، ليس من الصحيح تقديم نصائح لها. و لكن هذا ليس بيد ريان، طفلتهما صغيرة جدا و مازالت لم تستعد صحتها تماما.
هافين لا تشبع من مداعبة الطفلة، لقد تعلقت بها لدرجة أنها لا تتقبل ذهابها عنها بعد بضعة أيام. ريان متزوجة و حياتها في إسطنبول، بما أن إبنتهما بخير لم يبقى أي سبب يربط ميران هنا، عودتهم إلي إسطنبول مسألة وقت. و لكن ريان ريان مازالت عديمة التجربة ولا تستطيع الإعتناء بطفلتها لوحدها لهذا السبب سيأخذان السيدة زهرة معهما لفترة إلى بيتهما في إسطنبول.
"أين ميران يا إبنتي؟"
سألت السيدة زهرة و لكن ريان لا تبعد عينها عن إبنتها، الطفلة الحلوة نائمة في سريرها و تمسك إصبع أمها بإحكام.
"يحل أمر أوراق الخروج يا أمي"
عندما رفعت هافين قبعة جوناش، التي كانت تغطي رأسها، إلى الأعلى قليلا عبس وجه الطفلة و أظهرت إنزعاجها.
"ياااا... أنا أريد أن آكلها"
قالت هافين و هي لا تستطيع منع عاصفة الحب بداخلها لهذه الطفلة، و لكن ريان غضبت قائلة:
"أكل ماذا يا هافين؟ أنا لا أتحمل لمسها حتى"
"لن آكلها طبعا، قلت ما خطر في بالي فقط"
"و أنا يخطر في بالي أن أحبسها بداخلي مجددا و لكن لا أستطيع"
قالت ريان هذا ثم إبتسمت و نظرت إلى أمها و قالت:
"كم هو جميل إحساس الأمومة يا أمي العزيزة"
"نعم يا إبنتي، لا يوجد شيء لا تفعلينه من أجلها"
ريان الآن فقط فهمت أمها، مهما قالت أنها تفهمها سابقا فهذا كلام فارغ. هي جعلت أمها تعيش الكثير من الألم عن غير قصد، كم يعلم كم حزنت على إبنتها؟ و لكن ريان لم تحزن أمها عن قصد أبدا.... إلتفتت إلى إبنتها  مجددا، هل بإمكانها أن تتحمل ألمها؟ لن تتحمل. همست ريان بصوت لا يسمعه أحد غيرها:
"قدركِ لن يشبه قدر أمكِ يا جميلتي... و لكن أتمنى، أن تعشقي رجلا مثل والدكِ"
ريان تألمت كثيرا في حياتها و لكن معاناتها لم تنتهي بالخسارة، هي تمتلك رجلا تذوب في نظرته، تجد السلام في صوته و تنام بعشق تحت أنفاسه. لقد جعلها تنسى كل الماضي.
عندما دخل ميران إلى الغرفة إلتفتت كل الأنظار له، لم يبقى لهم عمل في المستشفى، بإمكانهم الذهاب الآن و لكن هناك سؤال يجول بداخل الجميع: ترى متى سيعودان إلى إسطنبول؟ إجابة هذا السؤال موجودة بين شفتي ميران... الجميع يريد أن تبقى ريان لمدة في القصر و يتساءلون حول رأي ميران حول هذا... قالت ريان:
"إلى أين سنذهب؟"
حينها نهضت السيدة زهرة من مكانها و خرجت، ثم فهمت أنهما يجب أن يتحدثا على إنفراد فلحقت بزوجة عمها و أغلقت باب الغرفة... ميران لم يهتم بسؤال ريان التي كانت تنتظره بترقب. جلس على حافة السرير و نظر إلى وجه إبنته النائمة، يدها الخارجة من البطانية كانت تأخذ شكل اللكمة. عندما لمس يدها بإصبعه، فتحت الطفلة يدها و أخذت إصبع والدها في كفّها ثم واصلت نومها. ربما هذا غريب و لكنها لم تكن تأخذ سوى إصبع ميران و ريان في يدها عندما تنام.
"أميرة أبيها..."
لمس بإصبعه فم إبنته الزهري الذي كان على شكل قلب، هي جميلة لدرجة كلما نظر لها يرتجف قلبه. حقا، هل سيستطيع أن يكون أب جيد؟ هو قلق حول هذا من الآن.
ريان تخيلت هذا المشهد كثيرا، فكرت كثيرا حول شكل ميران عندما يداعب إبنته، و مع ذلك لم تكن تتخيل أنه سيكون رائعا هكذا... وضعت يدها على خصرها و قالت:
"لقد تم رمي حذائي إلى السطح على الأغلب... لم تقل لي يا أميرتي ولو لمرة واحدة"
نظر ميران إلى ريان و إبتسم رافعا حاجبه، ماذا يعني هل تغار من إبنتها؟... يجب أن ينقذ نفسه الآن:
"ياللهول... أنتِ ملكتي، أنتِ الملكة الوحيدة التي ستعطيني أميرات و أمراء آخرين"
عندما ضحكت ريان رفع إصبعه و أشار لها كي تأتي إلى جانبه، فإقتربت ريان من زوجها و وجدت نفسها بين ذراعيه التي تجد فيها السلام. إنها سعيدة مجددا بعد فترة طويلة، كلاهما سعيدان. إبنتهما تنام بعمق أمامهما، من الآن فصاعدا سيمضي كل يوم بمشاهدتها تنام و تكبر أمام أعينهم. من الآن و صاعدا يوجد الحب فقط في حياتهما، توجد طفلتهما فقط. لا يوجد كذب و لا توجد أسرار.
"لا يمكننا البقاء أكثر في ماردين يا ريان"
قال ميران هذا ثم وضع شفتيه بين خصلات شعر زوجته و قبّلها مطولا. لقد تكلم عن هذا و كأنه مجبر و هذا لم يهرب من إنتباه ريان، هذا يعني أن البقاء في ماردين ليس هو ما يزعج ميران.
"لا شيء يمشي كما أخطط له في هذه الحياة، على أساس كنت سآخذك لنعود إلى إسطنبول و لكن أصبحت تلك الليلة مصيبتنا"
ولادة ريان المفاجئة خربت كل شيء و فتحت الأبواب لأيام عصيبة، و لكن إنتهى كل شيء بشكل جميل، هما لا يهتمان بذلك الآن.
"هذه المدينة التي قلت أنني لا أبقى فيها ولو ليوم واحد، قد بقيت فيها أكثر من شهر... يجب أن نذهب الآن"
لم يتكلم ميران و كأنه يشتكي من هذا، بالعكس نبرة صوته لا تقول هذا.
"من يعلم ربما هناك سبب لبقائك هنا"
رفعت ريان و نظرت في عينيه عندما قالت هذا، كلما ذهب الموضوع إلى والده كان يحس ميران بالألم، هي مدركة لهذا و لكن حالة الأب و الإبن تؤلم قلبها.
"لا يوجد سبب... من أجل هذا بالظبط أريد الذهاب من هذه المدينة بسرعة"
"هل سنذهب فورا؟"
ريان فهمت من كلامه أنهم سيذهبون إلى المطار فور خروجهم من المستشفى، هي تعطي الحق لميران، في الفترة التي بقوا فيها هنا فسد نظام حياتهما، غير ذلك إشتاقا لمنزلهما و لكنها تريد البقاء لبضعة أيام أخرى في ماردين. عندما نظر ميران إلى عينيها و كأنه كان يقرأ ما في عقلها، قال شيئا أسعدها كثيرا:
"أنتما ستبقيان بضعة أيام أخرى هنا، بعد أربعة أيام سنعود إلى إسطنبول"
غمرت ريان سعادة كبيرة بعد جواب ميران هذا، بينما كانت ستفتح فمها لتسأله أين ستبقى قال لها ميران:
"أنتِ ستبقين في القصر و أنا سأذهب و أعود من إسطنبول، هناك مسائل يجب أن أحلها"
"شكرا لك"
إرتسمت على شفتي ريان إبتسامة عريضة ثم عانقت ميران بشدة، لأول مرة بعد مدة طويلة ستبقى في القصر وهي مرتاحة، كلام ميران كان مثل الجائزة لها....
إرتسمت على شفتي ريان إبتسامة عريضة ثم عانقت ميران بشدة، لأول مرة بعد مدة طويلة ستبقى في القصر وهي مرتاحة، كلام ميران كان مثل الجائزة لها، و لكن رغم هذا هي ليست مرتاحة، جانب منها منكسر، كلما تذكرت ما حدث ليلة البارحة تشعر و كأنها ستبكي.
******
قبل يوم:
رن هاتفها، إنه إبن عمها الذي لم تره لعدة أيام يتصل. كانت قد تزعزعت تلك الليلة التي تشاجرت فيها مع ميران و عرفت حقيقة أن آزاد يحبها، و عندما رآته مباشرة سألته عن هذا. آزاد بقي صامتا ثم أدار ظهره و ذهب، لم يلتقيا منذ ذلك اليوم. إذا لماذا يتصل آزاد الآن بلا سبب؟
لم تفكر ريان كثيرا و فتحت الهاتف فقال آزاد:
"هلّا خرجتِ إلى الخارج؟"
ترددت ريان أمام طلب آزاد هذا، ثم تركت أمها في غرفة المستشفى و خرجت، من حسن الحظ أن ميران لم يكن هناك في تلك اللحظة... كان الجو قد بدأ يظلم، بدأت ريان تبحث بعينيها عن آزاد ثم رأته واقفا بعيدا. ذهبت إليه و نظرت له في حرج، و كأن وجهه ذبل و نحف قليلا، بالمختصر آزاد ليس بخير. هل ريان هي سبب وصوله إلى هذه الحالة؟ الحب هو حرب و آزاد كان الخاسر في هذه الحرب، كان هناك ثقل كبير على ظهره و حزن في عينيه، من الواضح أنه بكى على حبه الضائع. كم يريد أن يهطل المطر الآن لربما يطفئ الحريق الذي بذاخله... لم يتسع في القصر هذا اليوم أيضا و حملته قدماه إلى هنا و لكن لا يعرف لماذا جاء. قالت ريان:
"لماذا جئتَ؟"
إرتسمت إبتسامة أليمة على وجه آزاد، و هل يعرف هو إجابة هذا السؤال؟... همس بصوت منخفض:
"لأتكلم"
ليتكلم لآخر مرة... لم تعرف ريان ماذا تقول، رفعت إصبعها مشيرة إلى باب المستشفى و قالت:
"لندخل إلى الداخل إذا، أمي بقيت وحدها..."
"أنا أريد التحدث معكِ يا ريان"
هذا ما توقعته ريان، بقيت تنظر له و كأنها تقول أنا أسمعك. أدار آزاد رأسه يمينا و يسارا، هو لا يعرف من أين سيبدأ بالكلام، حالة ريان و كأنها غاضبة أحزنته كثيرا، إذا لم يشرح نفسه لها قد يفقد عقله، مادامت هي تعرف الآن بحبه لها، على الأقل لتعلم كم و كيف يحبها ثم لتدر وجهها له... أحست ريان بأن تصرفات آزاد غريبة و لكنها لم تدرك أنه جاءها ثملا، قالت له:
"هل أنت بخير يا آزاد؟"
إبتسم آزاد مجددا ثم قال بصوت مرتجف:
"أنا لست بخير منذ مدة طويلة... و لكن لا تقلقي، سأكون بخير"
الآن كل الدنيا لا تهمه و إلا ماكان ليقول هذه الكلمات دون خوف. ريان تحاول فهم ما يريد قوله و لكن إفادة وجهه تتغير كثيرا، تارة يبتسم و تارة يعبس وجهه. عندما إقترب خطوة من ريان حبست أنفاسها. قال آزاد:
"صحيح، أنا أتساءل عن شيء يا ريان... هل قلقت علي يوما؟"
أبعدت ريان عينيها عنه و بقيت تنظر للأطراف، لا يجب أن يتحدثا في شيء كهذا، هذا غريب جدا. صمتت ريان مجددا و لم تعرف بماذا ستجيبه. إبتسم آزاد مجددا، أساسا هذا ما كان يتوقعه. نظر إلى عينيها مجددا و قال:
"أنا جئت لأودعك يا ريان، اليوم سأنهي كل شيء... أكثر ماخفت منه هو النظر إلى عينيكِ هذه، خفت حتى الموت ولم أستطع النظر، كنت أخاف أن لا أرى نفسي في عينيكِ"
ثم أخرج من جيبه علبة السجائر و وضع واحدة في فمه و أشعلها، كانت النار تلمس أصابعه و لكنه لا يحس حتى، هو ليس بخير و غير مدرك لما يقوله.
"هل تعلمين؟ لقد دعوت الله كثيرا قائلا يا الله إما أعدها إلي أو إنتزعها من قلبي. و لكن لم يقبل دعائي... لا أنتِ عدتِ ولا حبكِ في قلبي إنتهى... في النهاية أنا الذي إنتهيت"
ريان أمسكت نفسها كي لا تبكي، ليس من حقها أن تُحَبَّ هكذا، لماذا لم ينفق حبه الجميل هذا على فتاة تستحقه؟ هي لا تعرف إن كان هناك أمل من أجله و لكنها ستدعو كل ليلة من أجل آزاد، كي ينساها، كي يحب إمرأة أخرى. كانت تريد أن تفتح فمها و تقول شيء و لكنها سكتت مجددا، ماذا ستقول؟ مهما قالت سيكون هذا سمّا لآزاد و هي تعرف هذا... سحب آزاد نفسا عميقا من سيجارته، الألم يتجلى في عينيه بسبب ما سيقوله الآن:
"من حسن الحظ أن كل شيء إنتهى... كانت لدي صورة لكِ خبأتها لسنوات، كنت أرتعب خوفا من أن يجدها أحد. كنت لا أنظر لها خوفا من أن تذبل. ثم سمعت أن الفتاة التي لا أفرط بالنظر إلى صورتها، قد حطمها رجل آخر في ليلة واحدة"
ريان لم تستطع أن تحبس دموعها أكثر و آزاد لم يستطع أن يُسكت لسانه المتمرد:
"أنا حرقت تلك الصورة البارحة يا ريان"
لن ينسى، لن ينسى أبدا تلك المرأة التي كانت سببا في حرقه تلك الصورة التي كان يخبأها كأنها كنز. وضع يده التي لا تحمل السيجارة على قلبه و إبتسم بألم وهو ينظر إلى عيني ريان الدامعة ثم قال:
"في نفس الوقت إحترق هذا أيضا، و كأنه تمزق إلى قطع صغيرة... أنا لا أقول هذا كي تحزني، إياكِ أن تحزني. أنا أكره ميران، أكرهه كثيرا... ربما لأنني لم أستطع أن أكون في مكانه"
آزاد يقول كل ما بداخله تحت تأثير الكحول و لكن لن يندم على هذا، كيفما كان إنه وداع. نظر إلى عينيها لآخر مرة و قال:
"أنا ذاهب من هنا، لأنني لا أستطيع... تذكريني مثل طفولتكِ، بشكل جميل و بريئ... تذكريني بشكل جميل..."
عندما قال آزاد هذا إنتهت سيجارته فرماها على الأرض و ضغط عليها بقدمه، كم كان يود أن يطفئ النار التي بداخله أيضا.
لقد إنتهى.
إنتهت السيجارة.
إنتهى كل شيء.
إنتهى آزاد.
أدار ظهره و ذهب، ياله من وداع، هو لم يتألم هكذا من قبل، خرج حبه من قلبه مثل العصفور و حلق بعيدا. نزفت روحه و إحترق عمره، هذه النهاية جعلته يحس بالغربة في مدينته.
بقيت ريان تنظر هكذا خلف آزاد، أحست و كأنها تودع طفولتها. الذي ذهب ليس ابن عمها، ليس الرجل الجريح الذي عشقها، بل طفولتها و مشاعرها البريئة. كانت تذرف الدمعة تلو الأخرى و بقيت تنظر حتى إختفى آزاد، على الرغم من ميران هي ستتذكر آزاد بشكل جميل... عندما وقع آزاد في حب خاطئ لم يحرق نفسه فقط بل حرق ريان معه و جعلها تتألم، بدل من البقاء أمامها دائما إختار أن يبتعد، ربما بعد الآن سيتصرفان و كأنهما غريبان... هذا ما يجب أن يحدث.
*******
خرجوا من المستشفى عندما بدأ الظلام يحل على المدينة، عندما ركبوا السيارة متجهين نحو القصر كان هناك شعور قلق غريب بداخل ميران، لا يعرف سبب هذا التوتر. هل هو بسبب إبتعاده لبضعة أيام عن إبنته التي إجتمع بها مؤخرا؟ أثناء الطريق كان يفكر بعدم إرسال ريان إلى القصر و لكنه طرد هذه الأفكار، أخذهما إلى إسطنبول فورا غير مناسب، ريان تحتاج للراحة لبضعة أيام و يريدها أن تودع عائلتها كما تريد هذه المرة. و لكن ألم إنفصاله عنهما حط على روحه من الآن و يتمنى أن تمر هذه الأيام بسرعة، لأنه يجهز مفاجأة كبيرة لريان في إسطنبول، سيتزوجها مجددا. لأن ميران الآن رجل أعزب رسميا... البارحة ظهرا قطع كل صلته بجونول في الجلسة الثانية و تطلقا رسميا، هذا مثل المزاح و لكنه حقيقة. لأول مرة جونول تقف وراء كلمتها و وافقت على الطلاق. عندما أخبره محاميه بالخبر أحس ميران و كأنه تخلص من حمل ثقيل، الله جعله يعيش فرحتين في يوم واحد. و لكن هذا لا يعني أنه لا يخاف، هذه السعادة كثيرة على هذا الجسد، إنه يخاف أن تكون هناك مفاجأة بإنتظاره تفسد هذه الفرحة.
وسط كل هذه السعادة، السبب الوحيد لقلق ميران ليس إبتعاده عن ريان و إبنته لبضعة أيام بل إتصال آردا به ذلك اليوم، بخصوص وحيد كارامان. منذ أن ذهب ميران إلى ماردين كان ذلك الرجل يبحث عن ثغرة له و وجدها في النهاية، لقد تحول إلى مجنون حين عرف أن ميران ليس دمه و أنه في الحقيقة إبن عدوه هازار شانوغلو... هذا هو سبب ذهاب ميران إلى إسطنبول، يجب أن يوقف الحرب التي بدأها عمه ضده، هو يعرف أن عمه سيقول له أنه لا ينتمي لهذه العائلة و ليس لديه حق في هذه الأملاك و الأموال. في الواقع ميران لا يهتم لهذه الثروة، سيتخلى عن كل شيء و سيعمل و يكسب رزقه بعرق جبينه، هو لديه مهنته. و لكن منذ أن عرف أن ذلك الرجل الذي يكون عمه هو من حاول قتله، قرر ميران أن يجعله يدفع ثمن هذا... لقد كان هازار شانوغلو محقا، والده كان محق، وحيد كارامان هو من أطلق النار على ميران.
"كن حذرا يا ميران، إنه ينتظر طلاقك من جونول بفارغ الصبر، قد يحاول قتلك مجددا قبل أن تتزوج ريان بشكل رسمي كي يرث كل شيء تملكه"
هذا ما قاله آردا على الهاتف... عندما وقفت السيارة أمام القصر، تملك الحزن قلب ميران، كلما وقف أمام هذا الباب يتألم الطفل الذي بداخله الذي لم يرى الحب أبدا... آه من هذا التأخر... تأخر أب على إبنه و تأخر إبن على والده.
هازار شانوغلو ينتظر حفيدته بحماس، إنها روح روحه. لم يستطع أن يعانق إبنه و لو لمرة لكنه يستطيع أن يشتم رائحة حفيدته و يحبسها بداخله. من يعلم، ربما ميران كان يفوح مثلها عندما وُلِدَ. عدم تذوقه هذا الإحساس يؤلمه لدرجة... بقي يتجول في فناء القصر في حماس و عندما سمع صوت الجلبة في الخارج لم يتمالك نفسه... عندما نزلوا من السيارة إتجهت السيدة زهرة و هافين نحو باب القصر، أما ميران فقد حمل إبنته في يديه برفق ثم وضع قبلات خفيفة على وجهها، هذه بداية فراقهم القصير. نظر إلى ريان مبتسما و قال:
"سأشتاق لكما"
هو لا يريد الذهاب أبدا، على الرغم من أنه سيعود لأخذ ريان و إبنته بعد بضعة أيام إلا أنه لا يحتمل هذا الفراق.
"نحن أيضا سنشتاق لكَ"
قالت ريان هذا مستعملة صيغة الجمع، أي تكلمت بإسمها و إسم إبنتهما. وضع ميران يده على وجنتها و داعبها قليلا ثم طبع قبلة على جبين زوجته، كم أنه يحبها كثيرا. و الحال أنه في وقت من الأوقات لم يكن يصدق أنه يملك قلبا... كيف سيترك الآن إبنته الصغيرة التي في حضنه؟ كم هو شعور غريب أن يصبح الإنسان أب، داخله لا يتسع له، و تذهب روح من روحه من أجل طفله....
أراد ميران أن يمضي عدة دقائق أخرى وهو يشاهد إبنته و يتحدث مع ريان، لو أنه لم يرى والده الواقف أمام باب القصر. ظهر الحزن على وجه ميران في لحظة و ذبلت إبتسامته ثم فكر بما أحس به تجاه إبنته قبل قليل. ترى هل يحس والده تجاهه نفس الإحساس؟
تألم داخله، هو أيضا إبن هذا الرجل... حاول ميران كثيرا التهرب من النظر لوالده لكن عبثا، نظرات السيد هازار الحزينة له تجعله يقفد قوته في هذه الحرب... عندما رأت ريان تردد والدها حول القدوم نحوهما، إبتسمت له و نادته رغم معرفتها بأن هذا سيغضب ميران:
"تعال يا أبي"
بقي ميران ينظر هكذا للرجل الذي يقترب منهما في تردد، غمره شعور غريب و لم يعرف ماذا يقول، لأول مرة تعجز كلماته هكذا و الحال أن لسانه كان أقوى سلاح له، من المؤكد أنه بإمكانه قتل هذا الرجل بالرصاصات التي ستخرج من شفتيه و لكنه لم يستطع فعل هذا... عندما وقف والده أمامه و نظر و كأنه يتوسل  الحب، تمزق كبد ميران و أحس بشعور غريب بداخله. ميران الذي لم يكن يحس سوى بالكره كلما رأى السيد هازار، الآن هو يحس بألم مختلف في قلبه. إنه والده، لا يمكنه إنكار هذا، هو الرجل الذي أحس أنه مسكين و يتيم في غيابه... قوله لكلمة "أبي" لرجل آخر ليس ذنبه، كل الذنب يقع على أمه، لقد دمرت حياة العديد من الناس فقط لأنها تزوجت رجلا لا تحبه.
"هل تسمح لي أن أراها؟"
قال السيد هازار هذا بصوت حرح، أما ميران فلم يفكر للحظة و أعطى إبنته في يد جدها. بينما كان ينظر السيد هازار إلى وجه الطفلة التي في حضنه إرتسمت إبتسامة لا مثيل لها على وجهه، كم هو شعور غريب، هذه حفيدته من الجهتين، إبنة ريان التي رباها و كأنها إبنته لسنوات، و إبنة إبنه من صلبه... أمسك بالطفلة التي في يده بإحكام و بيده الأخرى فتح البطانية قليلا و نظر إلى وجهها. كم هذا شيء سيء، أن لا يعرف إن كانت تشبه إبنه أم لا لأنه لم يره أبدا. كيف كان وهو رضيع، كيف كانت طفولته، ماهي اللعب التي كان يلعبها، متى كان يمرض... لم يعرف هذا أبدا... كلما فكر بكل هذا يحاوطه الألم من جميع الجهات، على الأقل إنه يريد تعويض الزمن الذي خسره، هو لا يعرف كم بقي له من العمر في هذه الدنيا الفانية و لا يريد أن يطول هذا الفراق أكثر... عندما أبعد السيد هازار نظراته عن الطفلة، مدت ريان يدها و أخذت إبنتها في حضنها، تعتقد أنه هذا هو الوقت المناسب لترك هذان الرجلان الجريحان على إنفراد، سحبت نفسها و بدأت تبتعد عنهما. لم يلاحظ ميران ذهابها ولا والدها.
"هل ستذهب؟"
قال الرجل هذا وهو ينظر بشوق إلى عيني إبنه، يريده أن لا يذهب، كيف سيعبر له عن هذا و ماذا يجب أن يفعل من أجل هذا؟ اللعنة، هو لا يعرف أبدا... إرتجف ميران و كأنه قد تدفقت مياه دافئة على قلبه الجليدي.
"ألن تمنحنا فرصة؟"
إنتظر الرجل جواب إيجابي من فم إبنه أو حتى كلمة واحدة... بقي ينظر له متوسلا مجددا.
"على الرغم من كل شيء؟"
ميران في هذه اللحظة يشك إن كان هو من سأل هذا السؤال، كيف إرتجف صوته هكذا؟... ضغط على شفتيه و هرّب نظراته. لا، هو لا يريد أن ينهزم لأبيه مثل طفل صغير... دمعت عينا السيد هازار و قال:
"على الرغم من كل شيء يا بني، ألم تعاملنا هذه الحياة بقسوة حسب رأيك؟"
بقي ميران ينظر إلى شوارع التي أصبحت مظلمة، قلبه يحترق و يريد أن يبكي. آه من عناده هذا و كبريائه الذي لا ينفع لشيء!!  ماذا سيحدث إذا عانق والده و بكى الآن؟... فتح شفتيه و أراد قول شيء و لكن كلماته لم تخرج و أصبحت كالخنجر في قلبه، أغلق شفتيه مجددا و أحنى رأسه، أصبح صمته في تلك اللحظة هو موته، كل كلمة لم يستطع قولها جرحت روحه. في الواقع ميران لم يستطع أن يكون رجلا قويا أبدا...
"أنا إعتدت على هذه القسوة"
تصرف ميران مثل عادته، لسانه يقول الكلمات التي تتجاهل قلبه. بقي ينظر إلى السيارة التي أمامه و لم يلتفت إلى والده أبدا، لأنه إذا نظر مرة أخرى إلى عيني ذلك الرجل سينهزم له، لن يسمح لقلبه أن يتغلب على منطقه و لا لشوقه أن ينتصر على صبره... أدار ظهره و قال:
"أنا ذاهب يا سيد هازار"
لن يقول شيئا آخر و لن يرى حزن الرجل الذي تركه وراءه... أعطت ريان جوناش لأمها، لقد كانت تشاهدهما أمام باب القصر، ميران لم يقتنع مجددا، أدار ظهره و هاهو ذاهب، أما والده فقد بقي يشاهد ذهابه في عجز... ركضت ريان و لم تسمح لميران بالذهاب بالسيارة ثم فتحت الباب و ركبت بجانبه، عندما رآها ميران عبس وجهه، إنه ذاهب، مالذي ستقوله له الآن؟ أساسا هو غاضب من ريان، لماذا تنادي ذلك الرجل؟
"أنا ذاهب يا ريان"
عندما قال ميران هذا بصوت بارد فهمت ريان أنه غضب منها و لكنها لا تريد إرساله بهذا الشكل، لا تريده أن يذهب حزينا و منكسرا. قالت ريان:
"مازال هناك وقت طويل لإقلاع الطائرة، إبقى قليلا أكثر، تذهب فيما بعد"
"لا، سأذهب الآن"
"ميران، أرجوك..."
نظر الرجل الشاب إلى الساعة التي في معصمه، نعم مازال هناك وقت طويل لموعد طائرته و لكن ماذا سيفعل إذا بقي هنا؟
"سآخذ السيارة إلى المحل الذي أجرتها منه ثم سأستقل تاكسي من هناك إلى المطار، بالكاد أصل"
"لا تختلق الحجج... هيا تعال، لنتجول في الشوارع"
مدت ريان يدها و لمست يد الرجل الذي تحبه، رغم أن الجو حار إلا أن يده كانت مثل الجليد. هي تعرف السبب، كلما رأى ذلك الرجل يتغير لونه و يصبح جسده باردا كالجليد.... نظر ميران إلى أمام القصر من مرآة السيارة، لقد ذهب هازار شانوغلو. فقال لها مبتسما:
"حسنا، لنتجول"
خرج كلاهما من السيارة، لن يحدث شيء إذا تجول قليلا و ذهب، لا يريد أن يذهب إلى المطار باكرا و ينتظر هناك كثيرا.... فور خروجهما من السيارة نظرا لبعض ثم أمسكا يدا بعض و بدآ يتجولان في شوارع ميديات الساحرة. على عكس ميران، ريان كانت تطير فرحا لأنها تخيلت هذه اللحظة كثيرا، و كلما حلمت به يتحول إلى حقيقة هذه الفترة... قالت ريان:
"هل غضبت مني؟"
"حتى لو غضبت بماذا سينفع؟ أنتِ لا تهتمين بمشاعري"
"أهتم يا ميران"
"هل لهذا تضعين ذلك الرجل أمامي دائما رغم معرفتك أنني لا أتحمل رؤيته؟"
على عكس وجه ميران العابس، ريان إبتسمت قائلة:
"لا، أنا لا أريدك أن تشعر بالندم في المستقبل"
"على ماذا سأندم؟"
عندما قال ميران هذا، إلتفتت ريان إلى القصر الذي بقي وراءهما و قالت:
"الزمن يمر مثل الماء، حتى النفس الذي نتنفسه قد ينتهي بعد ثانية، ألا تدرك هذا؟ لا نستطيع أن نمسك الحياة و أنت إجتمعت بالإنسان الذي عشت غيابه لسنوات و لكنك..."
"ليس هو الرجل الذي عشت نقصانه، ولا يمكن أن يكون"
ميران يريد أن يغير الموضوع، إنهما يتحدثان عن نفس الموضوع دائما. ريان تقول هذا دائما و ميران لا يتنازل ليستمع لها حتى. ذلك الرجل هو خيبة أمل كبيرة بالنسبة لميران.
"هل جوناش نائمة؟"
قال ميران هذا و قد إشتاق لإبنته من الآن، كيف ستمر هذه الأربعة أيام؟ هو حزين و كأنه سيخرج في رحلة لن يعود منها أبدا، لأول مرة يحس بأن الذهاب صعب هكذا، المسافات تبدو مخيفة له.... هزت ريان رأسها و قالت:
"نعم هي نائمة. أمي معها، إذا حدث شيء ستتصل بي"
أمسكت ريان أصابع ميران التي تضيع بين أصابعها بإحكام، و كأنها تمسكه للمرة الأولى. إبتسمت و تذكرت أول مرة أمسكت فيها هذه اليد. كم كانت خائفة حينها و خجولة... نظرت له و هي تبتسم مثل الأطفال و قالت:
"نحن أحرار الآن، أليس كذلك؟"
"نعم يا جميلتي، نحن أحرار"
عندما تذكر ميران المفاجأة التي يجهزها لريان، إبتسم هو أيضا. إنه يمسك نفسه بصعوبة كي لا يعطيها بشرى طلاقه و يجعلها أسعد إمرأة في العالم. لا يمكن أن يعطيها هذا الخبر بشكل جاف هكذا، سيُجلِس حبيبته على طاولة عقد قران حقيقية. ريان ستصاب بدهشة أولا ثم ستجن من الفرح و ترتمي في حضنه، هذا ما يليق بهما.
"هل ستذهب إلى البيت مباشرة؟"
رفع ميران يدها المتشابكة مع يده إلى شفتيه ثم قبّلها و قال:
"نعم"
إبتعدا عن الشارع الذي يتواجد فيه القصر، ما بعد هذا مكان خالي قليلا و لا يظهر أحد في الأرجاء. هناك شيء يزعج ميران و يحرق روحه و لكنه لا يستطيع أن يضع له إسما، لكن لا يريد إظهار قلقه هذا لريان و يحزنها.
"في وقت من الأوقات سنمسك يدا إبنتنا و نمشي في هذه الشوارع"
ريان تحلم بهذا، هي تعلم أن ميران سيتقبل وجود والده بعد فترة و سيمشي كل شيء على ما يرام و لن يبقى مكان للألم في حياتهما... ضحكت ريان و أكملت كلامها:
"ربما تخطو أول خطواتها هنا، ما رأيك؟"
فكرة أن رضيعة بحجم اليد ستكبر و تخطو أول خطواتها جعلت ريان تتحمس كثيرا، هي تعلم أن هذا الوقت سيمضي مثل الماء و لكنها لا تستطيع أن تصبر... أحلامها كبيرة و كثيرة لدرجة... لا تريد أن تفكر بأي شيء سلبي قد يعكر صفو حياتهما. و الحال أنها لا تعلم بالمفاجأة المؤلمة التي جهزتها لهما الحياة بعد قليل.
"ترى إسم من ستتعلم أولا؟ أمي أم أبي؟"
قالت ريان هذا ثم توقفت في مكانها حين لاحظت وقوف ميران، توقفه فجأة و يده متشابكة في يدها جعلها هي أيضا تتوقف. عندما إلتفتت إلى ميران، ذهبت الإبتسامة من شفتيها. الرعب و القلق الذي رأته على وجه حبيبها جعلها تفهم أن هناك شيء ما... لقد ذهبت إبتسامته و حل مكانها الخوف الذي في عينيه. لقد كان يضحك هذا الرجل قبل قليل، ما سبب تغير إفادة وجهه الصادمة هكذا؟
عندما لاحظ ميران وجود رجل في نهاية الطريق، و كأنه ينتظرهما، توقف في مكانه، إنه يفهم الآن سبب القلق الذي يحس به. كلما يفرح كثيرا تخرج الحياة أمامه مفاجأة صادمة، لقد أحس بهذا و لم يخطئ إحساسه.... هو مدرك الآن أن الرجل الذي أمامهما جاء من أجله و لكن ميران وقع في مخالب هذا الفخ الغادر في الوقت الخطأ... همس بداخله:
"لا، لا يمكن"
ريان لم تفهم بعد الغرابة التي يتصرف بها ميران... لا يمكن أن يحدث هذا الآن، لا يمكن أن يكون وحيد كارامان قد جُنّ إلى هذه الدرجة، أليس كذلك؟ لا يمكن حدوث هذا في وجود ريان. إرتجفت ركبتا ميران من الخوف و جف حلقه.
"لماذا توقفنا؟"

زهرة الثالوثحيث تعيش القصص. اكتشف الآن