٨- حقيقة ناقصة

2.6K 119 5
                                    

وقتذاك اتسعت عينيه لتُكمل هي:
- معنى كلامي ده إن بنسبة كبيرة الطفل عايش! أكيد في حاجه غلط حصلت في المستشفى، الطفل لازم يكون عايش..

وعندما قالت تلك الكلمات شعر بقلبه الذي قد تنفس وانبسط من انقباضه، ثم أكملت الطبيبة:

- غير كده أنت قولتلي إن الطفل اللي اتوفى كان ولد، مع إن رحيل كانت حامل في بنت إزاي ده ملفتش نظرك برضو

تذكر "عاصي" بعض الأشياء ليقول بصوتٍ مبحوح:

- بعد ما رحيل فاقت، قالتلي إنها سمعت صوت عياط طفل في اوضة العمليات، حتى كانت فايقة متأكدة إن بنتها عايشه، ده كان بعد ما الولد اتدفن

فقالت "امل" بذهول:
- إزاي كل ده ملفتش نظرك!

فصاح "عاصي" وقتذاك:
- كنت واخد بالي من كل حاجه بس خايف اعشم نفسي واعشمها بأمل كداب، أنا ما صدقت إنها بدأت تتخطى

فقالت "امل" بنبرة حزينة:
- مستحيل تتخطى يا أستاذ عاصي، دي أم فقدت طفلها، يعني أحمد ربنا أنها معملتش حاجه لحد دلوقتي، دور على بنتك ورجعها لحضنكم

تنهد الآخر بحرارة، يحاول استيعاب ما يسمعه منها، حتى تذكر شيءٍ فقال:
- قولتي البنت اللي ضربتها احتمال تكون دكتورة صح؟

فردت عليه:
- مش عارفه، أنا استنتجت كده بس مش شرط تكون كده، بس الفكرة هي لو كانت عايزه تقتلها وتقتل الطفل كانت عملت كده بسهولة، اشمعنا عملت كل ده؟ معقول كان قصدها تحميها مثلاً طب هتحميها من إيه ومن مين؟

صمت "عاصي" بتفكير، يشعر أنَّ ما وقعوا فيه ليست مجرد حادثة عابرة، لذلك أنهى حديثه مع الطبيبة وشكرها على ما قالته، ثم خرج من العيادة لتنسحب قواه ويسقط على الأرض ساجدًا لله، يشكره ويحمده على كل شيء، ظل يحمد ربه بصوتٍ مسموع ونهض من مكانه يتمالك نفسه، ومسح عينيه من الدموع التي تجمعت بها..

صمتت بترقب، ودقات قلبها تعلو أكثر فأكثر، حتى قال كلماته التي كانت بمثابة طوق النجاة بالنسبة لها:

- النتيجة سلبية، مفيش تطابق بينك وبين العينة، يعني الطفل ده مش ابنك..

وقتذاك شهقت بقوة وصاحب شهقتها تلك بكاء قوي، ثم أنهت المكالمة بسرعه وأخذت تبكي بصوتٍ عالٍ، وقد ارتاحت لكونها بمفردها في البيت فأخرجت كل ما تحمله بداخلها، وبعد مدة من النحيب، انتبهت لما هي عليه، فمسحت دموعها وبدَّلت ملابسها ثم خرجت من البيت، وكانت وجهتها المستشفى التي تم اسعافها بها

                            ***

جهزت نفسها جيداً للمقابلة، وقبل أن تخرج أتصل بها "شادي" وقال:
- صباح الخير، جهزتي ولا لسه؟

فقالت هي بحماس:
- أيوة كنت لسه خارجة أهو، ادعيلي بقى

- ربنا معاكِ، لما تخلصي طمنيني عملتي إيه

فابتسمت هي ثم أنهت المكالمة وخرجت من بيتها، متجه إلى شركة "عاصي" استقلت العديد من وسائل المواصلات حتى وصلت إلى المكان، دلفت إليه لتجد العديد من الناس المتقدمين للوظيفة غيرها، وبعد فتره وصل "عاصي" إلى الشركة وبدأ في استقبال المتقدمين واحداً تلو الآخر، حتى جاء دورها فدلفت إلى المكتب برهبة، جلست أمامه لتلاحظ شروده القوي، فسعلت بخفة حتى ينتبه لها وقد نجحت في ذلك، فالتفت إليها قائلاً:

- يا أهلا، أخبارك إيه ؟

فابتسمت قائلة:
- الحمدلله

ثم فتح سيرتها الذاتية ونظر بها، كانت تشعر بنسبة كبيرة أنه سوف يرفضها وخصوصاً أمام كل هؤلاء المتقدمين، والذين هم على كفاءة أعلى منها بكثير، وبعد لحظات من قراءته للسيرة قال:

- حضرتك متجوزة؟ بس المطلوب للوظيفة أشخاص متفرغين

صمتت قليلاً ثم قالت:
- أنا هكون صريحة مع حضرتك، حتى لو مكانتش الوظيفة دي من نصيبي، أنا متجوزة على الورق، يعني معتبرش متجوزة أساساً لأن الشخص اللي يعتبر جوزي كل مشاعرنا لبعض مشاعر أخوية لا غير، بس اضطريت اتجوز كده بسبب ظروف حصلتلي، لكن أنا بعتبر نفسي لوحدي مفيش حد في حياتي وعايزه حضرتك تعتبرني كده برضو، حتى جوزي ليه حياة مستقلة عني ودي حاجه مش مزعلاني خالص بالعكس، مبسوطة إني مجتش على حياته بسبب أهالينا

فتقبل كلماتها بصمت ووقتذاك انتبه لشيءٍ ما في السيرة فطالعها بذهول قائلاً:

- كان عندك بيزنس خاص بيكِ؟ طيب وقاعدة قدامي دلوقتي ليه؟

فقالت بضيق:
- علشان خسرته..

وقتذاك ترك ما بيده وطالعها بانتباه وأردف:
- مش فاهم خسرتيه إزاي؟

فقالت هي بهدوء:
- في شخص كنت بحبه، اتجوزنا ووقتها كنت وصلت لمرحلة كويسة في شغلي، خدعني ونصب عليا في كل حاجه، تعبي وسهري ومجهودي كله راح في ثانية بسبب شخص كنت عطياله حياتي كلها مش ثقتي بس، لكن نصيبي وأنا راضية بيه

صمت قليلاً يفكر بشيئاً ما، ثم ابتسم قائلاً:
- واللي يرجعلك حقك ده؟

وقتذاك لمعت عيونها بأمل وطالعته باهتمام فقال:

- اعتبري نفسك اتقبلتي، صراحتك معايا كانت مفتاحك لكل حاجه، وتقدري تبدأي معانا من النهاردة لو عايزه، وأنا عند وعدي ليكِ، هرجعلك حقك وتعبك ومجهودك، وبمجرد ما ارجعلك كل حاجه اعتبري نفسك شريكة في مشروع من مشاريعي مش مجرد موظفة هنا بس

فترقرقت الدموع بعيونها وظلت تعدّل من حجابها في توتر قائلة:

- حضرتك بتتكلم بجد؟!! بجد والله ولا بتهزر معايا بالله عليك

فابتسم "عاصي" لتُكمل هي ببكاء:
- شكراً شكراً أنا مش عارفه أقولك إيه او ادعيلك بإيه بجد!

وقتذاك ذهبت الابتسامة عن وجهه ليقول:
- ادعيلي ربنا يجمعني ببنتي قريب بس..

                                 ***

تجنب الظهور أمامها بعد تلك الكلمات التي قالتها له، ولكن في الصباح وأثناء ما كان يُدخل لها الطعام، تفاجئ عندما وجدها تقف على أرجلها بتماسك، فقال بذهول:

- شايفك كويسة؟!

فقالت "نور":
- الحمدلله، صاحية أحسن بكتير عن الأيام اللي فاتت، أنا مش عارفه أشكرك إزاي

مدَّ يده لها بصينية الفطور قائلاً:
- اتفضلي فطارك

فقالت هي بابتسامة:
- تعبتك معايا شكراً، بس ممكن تخليني اغيرلك على الجرح بتاعك لأخر مره

فطالعها مندهشاً فأكملت هي بهدوء:
- أنا عايزه أمشي.. اعتقد إنك مش حابسني أكيد مش كده

فقال مُسرعًا:
- لا طبعاً أنا قولتلك وقت ما تتحسني وتكوني عايزه تمشي أنا بنفسي هوصلك

فأكملت بنفس الابتسامة:
- شكراً بس أنا حابه أمشي لوحدي تعبتك معايا لحد كده

فقال هو بهدوء:
- طيب أنا مسافر يومين كده، ممكن تفضلي هنا لحد ما أرجع، أو على الأقل لحد ما تظبطي ظروفك وتعرفي هتروحي فين بدل ما يجرالك حاجه تاني ووقتها ممكن مكونش موجود علشان الحقك، افضلي في البيت اليومين دول لحد ما أرجع لو حابه

فصمتت قليلاً، كانت تفكر هل تذهب وتُكمل طريقها الشاق بمفردها، أم تستريح لمدة قصيرة وتعتمد على شخص آخر ولأول مره في حياتها، كان هناك شيئاً غريباً يبعث الأمان في عينيه، شيئاً يُرغمها على الوثوق به، فلم تشعر بنفسها إلا وهي تحرك رأسها بالإيجاب، فابتسم هو بلطف، ثم تناولت فطورها بسرعه، وطهرت جرحه وبدّلت ما عليه من شاش، وقد استعد هو لمغادرة المنزل لمدة يومان كما قال لها، ولكن قبل خروجه من البيت قالت هي:

- متأكد إنك متعرفش مين رشدي عبدالمجيد؟ حسيت إنك تعرفه لما اتكلمت عنه امبارح

فتسمر مكانه، ولكنه التفت إليها قائلاً بثبات:
- علشان أكون صريح معاكِ أنا سمعت عنه، لكن متعاملتش معاه شخصياً

صمتت وهي تنظر إليه بتمعن، فقال هو بتوتر نوعاً ما:
- البيت أمانة معاكِ لحد ما أرجع تاني

فقالت هي:
- مش غريبة إنك سايب بيتك في أيد واحدة متعرفهاش، ما يمكن أطلع مش كويسة، ازاي تأمن ليا كده، ولا ده مش بيتك أصلاً علشان تخاف عليه؟

رد عليها بنفس هدوئه:
- لو كنتِ مش كويسة كنت عرفت من أول مره بصيتلك فيها، لكن إنتِ غلبانة، علشان كده مش محتاج أخاف منك، وكله بثوابه بقى

ثم ابتسم وخرج من المنزل، ولكنه عندما خرج تذكر أنه قد نسى محفظته في غرفة المعيشة أثناء جلوسه قبل قليل، فعاد إلى المنزل وترك الباب مفتوحاً، وضع المفتاح في الباب ودلف إلى البيت، وعندما دخل إلى غرفة المعيشة وجد "نور" تنظر إليه بعينين مُتسعتين وهي ممسكة بشيئاً ما في يدها، وعندما دقق في يدها وجد بطاقته الشخصية التي تُظهر اسمه بالكامل «عامر رشدي عبدالمجيد» فنظرت إليه بدموعٍ قد تكونت في عينيها وصرخت به:

- أنت كداب

ثم هلعت من مكانها وظلت تركض بخوفٍ حتى خرجت من المنزل مُسرعه! ركض خلفها وهو يحاول أن يقنعها حتى تستمع إليه فقط، ولكنه لم يلحق بها لتختفي من أمامه كما ظهرت تماماً..

                                 ***

خرجت من الشركة بفرحة كبيرة، وأول شخص قد أتصلت به هو "شادي" لتحكي له عما حدث معها في المقابلة، وكان "شادي" في تلك الأثناء يدخل إلى عيادته الخاصة للحاق بميعاد إحدى جلساته حتى صدع هاتفه رنيناً برقم "إيمان" رد عليها قائلاً:

- طمنيني ؟

فقالت هي بحماس:
- مش هتتخيل إيه اللي حصل معايا!!

ثم قصَّت عليه ما حدث بضحك وعفوية، فابتسم هو رُغما عنه لصوتها الضاحك والبهجة التي تشع منه قائلاً:

- ألف مبروك مبسوط علشانك جدًّا!

فزادت ابتسامتها وقالت:
- بجد أنا مكنتش متخيلة أستاذ عاصي بني آدم كويس جدًّا كده

ولسوء حظه أنه لم ينتبه لاسمه الذي ذكرته بسبب تركيزه في ترتيب غرفته للجلسة، ثم أنهى المكالمة معها واتصل بـ "مريم" ليطمئن عليها، ولكنه وجدها تبكي بشدة فقال بفزع:

- مالك في إيه!

أكملت هي ببكاء:
- كل ما أعمل حاجه في المطبخ بتبوظ مش عارفه في إيه مش عارفه اطبخ حاجه وليلى جعانه وأنا متوترة

فقال هو برفق:
- طب أهدي مفيش حاجه، ولا تتعبي نفسك أصلاً هو إنتِ مفتحتيش الميكروويف ؟

فمسحت دموعها قائلة بشهيق:
- لا

ثم اتجهت إليه وهي تتحدث معه، وفتحته لتجد به طعام جاهز وصحي لهم، فقالت بذهول:

- جه امتى ده!

فقال هو بهدوء:
- حضرته في السريع قبل ما أنزل علشان عارف إنك هتتوتري في المطبخ لوحدك علشان أنا عندي جلسة مهمه، أنا فاكر كل ده إنك شوفتيه بس مش مشكله فداكي، بلاش تتعبي نفسك وارتاحي

فضحكت هي بصوتٍ مسموع وهي تمسح دموعها، ثم قالت:
- أنا بحبك، أنا بحبك أد الدنيا يا شادي

فقال هو ضاحكاً:
- كل ده علشان حضرتلك الأكل

فقالت هي برفق:
- لا علشان حسيت بيا، كنت حنين عليا في وقت أنا قاسية على نفسي فيه

فابتسم هو بلطف، ثم أنهى المكالمة والابتسامة على وجهه، ولكن سرعان ما اختفت تلك الابتسامة ليعود إلى تأنيب ضميره مجددًا...

                              ***

وصلت إلى المستشفى بهدوءٍ غريب، دلفت إليها بابتسامة وسألت عن الطبيب الذي قد أجرى لها العملية وتابع حالتها بعد ذلك، دلّتها إحدى الممرضات عن مكتبه فاتجهت إليه، ولحسن حظها أنه كان يجلس بمكتبه يأخذ وقت استراحته، فعندما دقت على الباب لم يرد عليها، فدلفت هي ليهبَّ من مكانه قائلاً بغضب:

- مردتش معني كده إني مش عايزه استقبل حد دلوقتي!

وعندما وقع بصره عليها طالعها بتوتر ثم ابتسم قائلاً:
- مدام رحيل، أهلًا وسهلاً أنا آسف ماخدتش بالي

فتقدمت نحوه حتى وصلت أمامه فقال بنفس البشاشة:
- اتفضلي اقعدي واقفة ليه؟

فابتسمت هي بهدوءٍ ثم قالت:
- بنتي فين.

حينئذ اختفت الابتسامة عن وجهه، ليقول بتوتر:
-  مش فاهم

فتخطت المكتب وتقدمت نحوه أكثر ليظهر حينها السكين الذي تمسكه بيدها، ثم وضعت السكين على رقبته لتخرج شهقة قوية من صدره قائلا:

- مدام رحيل إنتِ بتعملي إيه!! ابعدي البتاعه دي ونتكلم بهدوء طيب

فأكملت بنفس نبرتها الهادئة ولكن بعينين مُتسعتين تجمع بهم الاحمرار، ثم قالت بصوتٍ مبحوح:

- أنا سمعت صوت بنتي في العمليات، وتأكدت إن اللي أدفن مليش علاقة بيه، بنتي فين، اقسم بالله اقتلك دلوقتي ولا هيهمني حاجه، وبنتي هوصلها بيك أو من غيرك

قد تأثر الآخر من كلماتها ليقول بخوف:
- والله العظيم أنا مليش دعوة والموضوع مش زي ما إنتِ فاكره!

وقتذاك دست السكين إلى عنقه أكثر فأحدث هذا جرح صغير، ثم قالت وقد ترقرقت الدموع بعينيها:

- ده أنا ملحقتش أشم ريحة بنتي حتى أنتم يهود! بنتي فين لأخر مرة هسألك

فقال بخوفٍ:
- اقسم بالله أنا معرفش حاجه عن بنتك، من ساعت ما خدوها من اوضة العمليات وخرجوا بيها معرفش

فقالت بعدم تصديق:
- كداب، مين اللي قالك تقول إنها ماتت، ومين اللي قالك إنك تسلم لنا طفل ميت على أساس إنه ابننا! مين اللي قالك كل ده وليه، ليه تعملوا فينا كده

وقبل أن يتكلم الطبيب ظهر أحد عند باب الغرفة وصاح:
- رحيل!!

فالتفتت بغضب وعينين تخرج منهم النيران، لتنظر أمامها بصدمة كبيرة وقد ارتخت يدها عن السكين قليلاً لتسقط من يدها ..

توقعاتكم؟؟ آراءكم؟؟👀❤️❤️
يا ترا إيه اللي هيحصل الفصل اللي جاي؟!

 رحيل العاصي حيث تعيش القصص. اكتشف الآن