أصوات مراكش” كتاب روحاني عن مدينة روحانية. إن إلياس كانيتي -المؤلف- يقتاد بانبهار المكتشف أول مرة عالما خاصا من الإبداع، يتشكل في تفاصيل صغيرة دقيقة قد لا يلاحظها زائر عادي لأي مدينة، وبالخصوص مراكش. تفاصيل يرقبها كانيتي في أبنية المدينة ومشرديها وشحاذيها، في أطفالها الفقراء الذين يتسولون الأوروبيين على قارعة الطريق وأمام مداخل المطاعم الفاخرة، وفي ساحة الفنا العريقة..
يتجول كانيتي، الأديب البلغاري النوبلي بين كل هذا وذاك ساردا تفاصيل معايشته للحظة جزئية خاطفة وأحيانا سموه عنها، صوفي في مشاعره، إنه دقيق الوصف في ما يتصل بذلك العالم الذي يكتشفه على واقعيته المجردة.
كيهودي، يعايش كانيتي بيئة يهودية في مدينة حضارية بأقصى بلد في الشمال الغربي لإفريقيا، تلك المدينة مدخل الصحراء وبوابتها القابعة في سكون المشرد الأعمى في أحد طرقها وهو يلوك في لسانه عشرات المرات في اليوم، عبارة “الله”، تلك العبارة النموذجية التي تختزل كل ما يبغي المرء أن يحكي به واقعه، أحلامه، ظروفه، وشكواه.. تلك العبارة التي راح كاتبنا بعد عودته لمسقط عيشه بلندن متربعا على أرض جرداء يعيدها مغمض العينين، مرة ومرتين وثلاث وعشر على طول أيام وأسابيع وشهور..ينتمي كتاب كانيتي لأدب الرحلة، في البدء وأنا أقرأ اسمه على غلاف الكتاب اعتقدته كاتبا مغربيا متغرّبا، أليس ذلك الإسم محلي الإنتماء؟ غير أن اعتقادي لم ينبع سوى عن جهل بهذا الكاتب الحائز على جائزة نوبل في الأدب، إنه مدخل مميز لولوج إبداعه، فريد حيث لا يتوقف مس إبداعه فقط في هذا العمل النموذجي. رغم أنه لم يشتغل على عديد الأعمال الأدبية حيث انشغل لفترة طويلة بكتابة دراسة أنثربولوجية مطولة أسماها الجماهير والسلطة وظهرت ككتاب عام 1960م، قبل أن يكتب سيرته الذاتية، المكونة من ثلاتة أجزاء (ظهر الجزء الأول منها سنة 1977م والجزء الأخير سنة 1985م).
لا يكفي القارئ أن يهيم بمراكش المدينة لدى كانيتي إلا وهو يقرأ عنها، يتتبع خطاه ما بين الحارات الضيقة وبصره وهو غارق مع المرابط الذي يمضغ القطع النقدية في فمه قبل أن يدسها بخفة في جيبه..
منح كانيتي جائزة نوبل للأدب العام 1981 تكريما له، ومنح قبلها عديد الجوائز الأدبية الأخرى عن أعماله المتميزة وإحداها العمل الذي بين أيدينا “أصوات مراكش”.
