مراجعات كتاب "الولد الذي عاش مع النعام"

31 1 0
                                    

مضى وقت طويل لم أتورط فيه بحالة من النوستالجيا كالتي أصابتني بعد فراغي من قراءة هذه الرواية، إذ ضلت مشاهد منها تتراقص أمام عيناي كلما مررت بطريق جبلي، حتى أنه يخيّل إليّ أحيانا أنني أرى سربا من النعام خلف التلال يعدو بخطوات طويلة يسابقه كائن بشري شبه عار يتطاير شعره الطويل مع الرياح، وأحيانا أخرى أرفع رأسي للسماء فأرى حلقة من الصقور تدور في وضعية استعداد للانقضاض على بيضات نعام حديثة الوضع..

حالة ذهول عميقة، وغوص في حالة ذهنية لم يتعرّض لها عقلي سابقا.. إذ ضللت بُعيدًا منها أفكّ وأفكّ في محاولة مني للوصول إلى نمذجة معقولة لمزاوجة غير معقولة: تعايش أسري لأفراد من طبيعة حيوانية وفرد بشري!

في الهامش الذي أوردته الكاتبة قالت إنّها (طاردت) تفاصيل الحكاية بعدما سمعت عنها عرضا في سياق إعدادها لربورتاج حول حسن ضيافة البدو الرحل في الصحراء الغربية، فكانت من بين القصص التي سمعتها من طرف البدو الذين استضافوها قصة حقيقية عن ولد إسمه “هدّارة” ضاع في زوبعة رملية فعثرت عليه نعامة واعتنت به مع صغارها لأكثر من عقد حتى أصبح جزء من السرب وشبّ كنعامة حقيقية في جسد كائن بشري..  إلى أن جاء اليوم الذي عُثر عليه من طرف البشر وعاد ليتكيف مع حياة الإنسان من جديد..

الكاتبة وفي سياق روائي محبوك جيّدا إشتغلت على الأسئلة التي تشتعل فورا أول سماع قصة كهذه: كيف جرى التواصل بين أفراد السرب الواحد، النعامات والولد (هدّارة)؟ كيف حدثت عملية التكيف للولد مع النمط المعيشي للنعام، في الأكل والشرب والنوم والتنقل؟ وكيف تعامل الولد أيضا مع طبيعته المختلفة عن باقي أفراد أسرته التي نشأ فيها، نفسيا وذهنيا وبيولوجيا؟ والأدهى من كل ذلك، كيف انبثق شعور التعاطف من النعامة الأم مع طفل ليس لها، وليس من حتى من جنسها! رغم أن النعام يتخلى فورا عن صغاره ما إن يكونوا قادرين على المشي والاقتيات بمفردهم؟.. وأخيرا كيف انسلخ هدّارة من جلد النّعام عائدا لطبيعته البشرية؟..


رغم البداية الرتيبة للرواية والتي دفعتني إلى طرح الكتاب من حسابي لبضعة أيام ثم العودة إليه لاحقا، أقرّ أن الكاتبة نجحت في إشعال فتيل الأحداث فيما بعد، إذ جدّلت من الخيال أحداثا حول هدّارة لدفعه إلى الأمام في رحلته القدرية.. مستندة على هيكل الأحداث الحقيقية التي سمعتها من أفراد قبيلته، وموظفة لثروة معرفية هائلة حول طبيعة حيوان النّعام، إذ أغنت بها حكايتها، في سياق تضميني ناجح بعيدا كل البعد عن السرد الوثائقي..

حين فرغت من الرواية، برقت بذهني توصية كنت قد قرأتها لـلكاتبة نانسي كريس في كتابها (تقنيات كتابة رواية) حول خطر الكتابة عن طائفة تختلف عن تلك التي ينتمي إليها الكاتب، إذ حذرت من فخ التهريج الذي قد يقع فيه هذا الأخير إن لم يكن ملما بالتفاصيل اللازمة.. وبدا لي أن مونيكا قد قرأت ذات التوصية، أو أنها قد شحذت نفسها لتلافي الوقوع في هذا الفخ.. إذ أنني شعرت بقلمها الحذر وهي تتحدث عن طبيعة لا تشبهها: صحراء واسعة مليئة بالأسرار.. رجال ملثمون.. طفل لا يتكلم.. ومنظومة حيوانية متشابكة تترصد بعضها البعض من أجل البقاء..

عَالَمُ الكُتُبْ 📖 - 📚 Books World حيث تعيش القصص. اكتشف الآن