نصّ يحتضن بين جنبيه تقاطعات فلسفيّة ، وايديولوجية ، ودينية 'الماركسية ، عقدة أوديب ، الرومنسيّة ، القرآن' ، وتتداخل فيه أصوات عديدة ، ومرجعيات متنوّعة لتصنع عالمه الخاصّ . الحكاية بسيطة في ظاهرها ، عميقة في خطوطها الخلفيّة الراكدة في قيعان العمل . هو نصّ مراوغ ، شموس ، متمنّع ، يظهر شيئا ، ويخفي أشياء ، لا تتبيّن خيطه الأبيض من خيطه الأسود إلاّ إذا تفكّرت ، وتدبّرت ، وتوغّلت في أدغاله . ينطلق السرد على وقع جريمة ، والجريمة على بشاعتها تنبت جمالا في ساحة اللغة ، وأرض الرؤية معا ، وتدشّن زمن "الياطر" ، ونعيش مع زكرياء المرسنلي مغامرات " بلطجيّة " ، وحالات من السّكر ، والدعة ، وقصّة حبّ عميقة مع تركمانيّة على شاطئ البحر في مهبّ العراء بعيدا عن صخب المدينة ، ونفاقها .
إنّ " الياطر " كتابة تراوح مكانها بين راهنيّة الأحداث 'في الغابة ' ، وسحيق الذكريات ' المدينة ' ، لتكون بذلك الحبكة مفتوحة على زمنين : زمن فيزيائيّ' الحياة على الشاطئ في الغابة '، وزمن نفسيّ متعلّق بلحظة قتل صاحب الحانة اليونانيّ زخريادس، ويتواشج الزمنان ليصنعا بهجة الحكي ، المبنيّ في الخطوط الخلفيّة للنصّ على الرؤية الماركسيّة / الحلم ' في وعي الكاتب " ، والإنتصار للبروليتاريا / البحارة ، كما يحتكم النصّ لرومنسيّة جريحة لم تستطع من ارتباطها بالمدينة والناس فكاكا ، تلك هي شخصيّة زكرياء في علاقتها بالمكان / الرمز .
إنّ هذا الصيّاد القادر على صيد اللحظات المحدّدة ليبني في الغابة ' وبعد هروبه ' بين أحضان كوخه عالما تتجاذبه سجلاّت فكريّة تفتح على عالمين عالم معيش ، وآخر حلم يتحقّق سرديّا ، وتمثّل جريمة قتل زخريادس " البرجوازيّ / صاحب الخمّارة " نافذتنا التي نطلّ من خلالها على صوت الماركسيّة الخفيّ في النصّ ، وحديث صراع الطبقات ، وعلاقة البروليتاريا الرثّة بمالكي وسائل الإنتاج والطبقة البرجوازيّة بصفة عامّة ، ويمثّل لقاء التركمانيّة شكيبة في الغابة "قادح النصّ / الحلم في الجزء الثاني من حركة السرد " و تجسيم المرحلة الشيوعيّة إنتصارا للذات المسحوقة وسقوط مفهوم الدولة ، والنصّ بين هذه وتلك "قي المدينة / داخل الغابة" كما السفينة تتدافعه أمواج الحياة والتجارب داخل نسيج إجتماعي متنوّع "عربي ، يوناني " ، ومتقلّب في نسج علاقاته الإنسانية العربية / العربية "قتل الإبن المرسلني لبحار صديقه " ، وعلى تنوّع هذه الأنماط ، والأحداث يمثّل زكرّياء " ياطر " النجاة " الياطر هو مرساة المركب " على درب بناء مجتمع متحرّر من قيود الإستعمار والإستغلال الفاحش . هو نصّ يسير على رمال متحرّكة ، فتارة تحملك رياح الغابة لمعانقة لحظات رومنسية ، يعيش فيها الإنسان/ زكرياء لحظة الصفحة البيضاء ، لحظة البدايات ، ولكن سرعان ما تقطع هذه اللحظات الصافية بالعودة إلى الوراء حيث المدينة والأهل "عبعوب / الصديق / العقل - وصالحة / الزوجة الدجاجية" وبين اللحظتين يسير النصّ مركبا هادئا حينا ، متلعثما أحيانا ، يمخر عباب الأيّام بلغة نثريّة طورا " حديث المدينة " وشعريّة أطوارا " حديث الغابة ". رائحة البحر تدغدغ الأنف ، وتبعث في النفس أسئلة الماضي الحارقة ، وبريق الأمل / شكيبة ممدّد في الفضاء كما السحب ، كما الأحلام ، كما السراب ، والسيجارة بنارها تختزل هموم التائه في الغابة "بين قناعة / سقوط "، وصورة شكيبة مبثوثة في مفاصل النفس بجسدها الثرثار ، وعينيها المزدحمتين قيلا ، لعلّ حظّ زكرياء في النصّ كحظّ المومس في المرافئ المفتوحة على الشبق والرحيل في زمن صعّرت فيه المدينة خدّها للرجال " وعندئذ تتذكّر مدينتي أنّ رجال البحر الذين تلحق بهم الأذى والعار هم الذين يحمونها ، وهم ، لا أصحاب المراكب والخمّارات ، كانوا يستحقّون اكرامها ، لو لم تكن عاهرة " "ص115) ، وبين طوباويّة الغابة ، وواقعية المدينة وغكراهاتها ، ومنزلتها في قلب زكرياء ، يبني السارد عالمه المحكوم بحادثة الحوت التي افتتحت النصّ ، وكانت سبب هروب زكرياء من المدينة ، كما مثّلت سبب عودته إلى المدينة في آخر النصّ ، وبين الحوت والحوت " بقية الرواية " كان هذا البحّار العجوز كيونس لا في بطن الحوت مسبّحا ، بل كان في بطن الغابة مندفعا نحو عوالم الصفاء تارة ، ومشدودا إلى حياة الناس أطوارا ، " ويا شكيبة قلت لها ، الذين هناك ، في مدينتي ، نسوني ، كنت صيّادا ماهرا ونسوني ، وكنت بحّارا شجاعا ونسوني ، أضاعوني ، ولقيتك أنت ، في هذه البريّة ، فليقت مدينتي ، أنت مدينتي ، أنت عائلتي وأصحابي ، أنت كلّ ما بقي وكلّ ما أريد ، ولأجلك كالحيوان المربوط إلى وتد ، ارتبطت بهذه الغابة ، حلمت في الليالي أن أبني لك بيتا ، وأصنع قاربا ، وأنشئ حديقة ، وآخذك معي إلى البحر ..."" ص172" ، وتذهب الأحلام " الغابة " تاركة مكانها للواقع ، هذا الواقع الموبوء والمحتاج لرجاله الصادقين .