صدر منذ فترة كتاب “مظاهر الفكر العقلاني في الثقافة الأمازيغية القديمة: دراسة في تاريخ العلوم الصورية وتطبيقاتها”. ويعد الكتاب بمثابة ” لبنة أولى في مشروع ضخم يهدف إلى إعادة كتابة تاريخ الأفكار، وخاصة العلمية، وبشمال إفريقيا بشكل عام”. كما أكد على ذلك مؤلفه الدكتور عبد السلام بن مَيْسَ في المقدمة، التي ارتأينا تقديمها هنا لتكوين صورة أدق عن هذا الكتاب المتميز، الجدير بالقراءة والمناقشة. ومما يزيد من قيمة الكتاب هو أن مؤلفه إعتمد في تأليفه على المصادر المكتوبة باللغة اللاتينية، إلى جانب ما هو مكتوب باللغة الفرنسية والإنجليزية، وأمعن في الكشف عن المفكرين الفلاسفة والعلماء المغاربيين الأمازيغيين الذين كتبوا باللغة البوينية ( القرطاجية) واليونانية واللاتينية وساهموا بفعالية في التأسيس للحضارات المحسوبة على تلك اللغات الثلاثة، مع التعريف بكتابتهم المندثر منها والمجهولة المصير أو ما هو متوفر منها إلى يومنا هذا، إما ككتب منشورة أو كمخطوطات. فجاء الكتاب غني ببيوغرافيا قيّمة بالمراجع ذات الصلة بتاريخ المغرب الفكري الثقافي والحضاري، خاصة ما يتعلق منها بمرحلة ما قبل الإسلام التي تعرضت للكثير من الطمس والتتشويه.
ونشير إلى أن المشروع العلمي الضخم الذي يبشر به عمليا الدكتور بن مَيْسَ، من خلال هذا الكتاب، يتقاطع مع مشروع الدكتور أحمد الطاهري الذي يهدف إلى إعادة كتابة تاريخ الغرب الإسلامي بالحفر في ” الفصول المنسية من تاريخ المغرب الإسلامي”، وقد أصدر الدكتور الطاهري كتابين متميزين ضمن مشروعه هذا، علاوة على كتاباته الأخرى، وهما: إمارة بني صالح في بلاد نكور، و المغرب الأقصى ومملكة بني طريف البرغواطية.
ومما لا شك فيه أن الدكتور بن مَيْسَ سيساهم بقوة، ليس فقط، في تصحيح صورتنا عن تاريخ المغرب الكبير ما قبل الإسلامي، بل وأيضا، في توضيح الكثير من الجوانب المرتبطة بالتاريخ الإسلامي والحديث للمنطقة المغاربية، وبعمقها الحضاري؛ منها على سبيل المثال لا الحصر، ظاهرة الزاوايا أو الرابطات، إذ يحفل كتاب: “مظاهر الفكر العقلاني في الثقافة الأمازيغية القديمة”، بالمعطيات التي تبيّن مدى تأصّل هذه الظاهرة في الحضارة المغاربية، فالمثقفون الأمازيع كانوا ينتظمون في حلقات أو رابطات فكرية علمية دينية تربوية، كان يرأسها حكماء أجلاء. وظاهرة الزاوية في الحقبة الإسلامية بالمغرب الكبير لا تخرج في جوهرها عن هذا الإطار، رغم التغيرات التاريخية التي عرفتها المنطقة والتحولات الكبرى التي طرأت على منظومتها العقلية والدينية والسياسية.* مقدمة عامة :
هذا الكتاب هو عمل في تاريخ الأفكار، ويهتم على الخصوص بمباحث المنطق الصوري والتطبيقي والرياضي. لكن هذا العمل محصور في الزمان وفي المكان. الزمان هو ما يسمى بالفترة القديمة حسب المفاهيم الكرونولوجية الغربية، وتبدأ من القرن 12 قبل الميلاد لتنتهي مع نهاية القرن السادس بعد الميلاد. أما المكان فهو ما سوف نسميه بالمغارب، أو شمال إفريقبا( باستثناء مصر).