المقدمة: إن إحدى الخصائص المميزة للثورة السوريّة عن ثورتي تونس ومصر، من ناحية اجتماعية، هي خصوصيّة المجتمع السوريّ المركب والمتباين إثنيَّا، دينيًّا، وطائفيًّا، على العكس من الهوية المتجانسة نسبيًا في المجتمعين التونسي والمصري، هذه الخاصية تتيح إمكانية الاستخدام السياسي لهذه الانتماءات الفرعيّة في الأزمات الكبرى، ولكن ذلك يحمل تأثير سلبي في التكامل والاندماج الاجتماعيين، وبناء الهوية الوطنية. وأيضًا تؤكد هذه الخاصية من جهة ثانية على فشل الدولة السورية في مرحلة ما بعد الاستقلال في إنتاج هويّة وطنيّة جامعة بالاستناد إلى فكرة المواطنة المتساوية، ولجوئها إلى أيديولوجية توحيدية قسرية أو إلى القمع. والمسألة الكردية السورية وسعيهم إلى الاستقلال يدل على أن الدولة السورية لم تفلح في تكوين الوطنية الجامعة التي تمنع الأكراد من الانفصال عن سوريا الآن والانضمام إلى إقليم كردستان.
1- النزوح
يمكننا أن نقول بوضوح أنّ المسألة الكرديّة في سوريّة من أبرز التحديات الحالية والمستقبليّة التي تواجه الدولة والمجتمع السوريين باعتبارها مشكلة تتشابك فيها العوامل التاريخيّة والديموغرافيّة، إضافة إلى التفاعلات السياسيّة الإقليمية والدوليّة المحيطة. وهي تحمل في طياتها مخاطر عديدة تتجلى في إمكانية تقسيم الدولة، تلك الإمكانية تتعدى الحقائق الديموغرافيّة والجغرافيّة.
إنّ المسألة الكردية في سورية شيء مختلف عما هي عليه في إيران والعراق وتركيا. فالمشكلة الكردية السورية، بمعناها الراهن من الناحية التاريخية هي مشكلة تركية تساقطت آثارها في سورية أكثر مما هي مشكلة سورية، بالرغم من أن القوى السياسية الكردية في المراحل الزمنية السياسية اللاحقة أعادت صوغها تدريجيًا على شكل مشكلة كردية سورية.
فأصل المشكلة يكمن في تحطيم الكماليين لمعاهدة سيفر 1920 وبذلك أرغمتهم الدول الكبرى على إحلال معاهدة لوزان 1923 محلها، والتي أنهت مشروعين نصت معاهدة سيفر على قيامهما في الأراضي التي ستشكل لاحقًا الجمهورية التركية، هما الدولة الأرمنية والكيان الكردي. وكانت أراضي هذين المشروعين اللذين نصت عليهما اتفاقية سيفر 1920 تعتبر كرديّةً وجزءًا لا يتجزّأ من كردستان الشماليّة في منظور القوميّين الأكراد، بينما كانت تُعتبر أرمنيّةً وتشكّل جزءًا من مقاطعات أرمينيا الكبرى الجنوبيّة - الغربيّة في منظور القوميّين الأرمن، في حين كانت تعتبر تركية بالنسبة إلى القوميين الأتراك، كما يعتبر جزء كبير منها من الشام التاريخي بالنسبة إلى القوميين العرب، وتحديدًا بالنسبة إلى النخبة القومية السورية التي قادت مشروع المملكة السورية العربية في عام 1920
أدى إنهاء مشروع الكيان الكردي في كردستان تركيا، وقيام الجمهورية التركية الجديدة إلى نشوب ثورات كردية عشائرية ضارية ضد سياسة الصهر القومية التركية الجديدة. وبين سنوات 1925- 1938، قام الأكراد في كردستان تركيا بسبع عشرة ثورة ضد تلك السياسة.
وقد نتج من سحق هذه الثورات تدفق هجرات كردية عديدة إلى سورية الواقعة تحت الانتداب الفرنسي، وتركّزت معظم الهجرات في منطقة الجزيرة السورية. كذلك، شجعت سياسات الانتداب الفرنسي الإثنية بشكل منهجي على الهجرة إلى الجزيرة السورية، وفتحت
أبوابها على مصراعيها خلال الفترة 1925- 1943. ومعنى ذلك أنّ الهجرة شكلت العامل الحاسم في ارتفاع الحجم السكاني الحضري للجزيرة السورية بمعدّل نمو مرتفع مسجّل قدره
%5.6 سنويًّا، وكان هذا أعلى معدّل نمو سكانيٍّ إقليميّ في سوريّة الانتدابيّة حتى عام 1943، ويمثل تقريبًا خلال تلك الفترة أكثر من ثلاثة أمثال تقديرات معدل النمو السكاني العام.
2- الإحصاء الاستثنائي
في مرحلة تطبيق الإصلاح الزراعي في الفترة (1958-1961) إبان الجمهورية العربية المتحدة، شهدت سورية موجة هجرة جديدة من تركيا للانتفاع من عملية توزيع الأراضي التي استولت عليها مؤسسة الإصلاح الزراعي، وقدر حجم هذه الهجرة بألوف المهاجرين. وفي مرحلة الانفصال السوري (1961-1963) أُلغيَ في المرحلة الأولى قانون الإصلاح الزراعي، وتمت عملية ربط توزيع أراضي الدولة بعملية إعادة "توزيع السكان" في مرحلة حكومة الدواليبي ( 8 كانون الثاني/ يناير- 28 آذار/ مارس 1962). وفي 5 تشرين الأول / أكتوبر 1962 قامت حكومة العظم بعملية إحصاء استثنائي للسكان في محافظة الجزيرة (الحسكة)، وقضى قرار وزارة الداخلية التفصيلي بإنهاء كافة سجلات الأحوال المدنية السابقة المتعلقة بسكان المحافظة، وإجراء إحصاء عام جديد لسكان المحافظة سوريين و"أجانب"، واعتبار السوري هو كل من كان مسجّلًا في قيود الأحوال المدنية قبل عام 1945 ، ومن ثمّ اعتُبر المهاجرون المقيدون رسميًا قبل هذا العام سوريين. وارتبط تحديد عام 1945 كسنة أساس بتقدير الحكومة السورية المنطلق من أنّ تدفق الهجرة الجديدة التي حاز أفرادها على هويات شخصية بطرق مختلفة وبمساعدة أقربائهم وعشائرهم قد بدأت في عام 1945 ، واستقرت على طول الحدود من رأس العين إلى المالكية. وبالتالي كان الهدف هو تحديد تدفق موجة الهجرة الجديدة.
أدت عملية الإحصاء إلى تسجيل" 85 ألف "مقيم" في محافظة الحسكة في يومٍ واحدٍ بصفة "أجانب أتراك"، وهو مايعادل 28 % من سكان المحافظة البالغ يومئذ 302 ألف نسمة في ضوء نتائج التعداد العام الذي تمّ في العام 1960، وجُرّد من الجنسية السورية عدد من كبار السياسيين والعسكريين السوريين مثل عبد الباقي نظام الدين، النائب والوزير في حكومات متعددة، وشقيقه اللواء توفيق نظام الدين، رئيس هيئة الأركان السورية في الفترة
(1955 - 1957). وفي العائلة الواحدة كان يحدث أن هناك من تم اعتباره سوريًا وهناك
من صنّف في خانة "أجانب تركيا". ولكن تجريد نظام الدين وشقيقه من الجنسية أفقد عملية الإحصاء أي مصداقية، وصبغها بطابع الانتقام.
في أوائل تشرين الثاني / نوفمبر 1962 استكملت حكومة العظم وضع مبادىء "برنامج إصلاح منطقة الجزيرة"، الذي تمثل جوهره في اعتماد سياسة "تعريب" الجزيرة، وفي تجميد تطبيق قانون الإصلاح الزراعي كيلا يكون للغريب أي نصيبٍ في الأراضي التي توزّع.
3- الحزام العربي: شعار وأسطورة
4- الحد البشري الفاصل: مكمن المشكلة
5- مشاريع متأخرة أم تاريخ وواقع
6- الإحصاء في صف سوريا