«البقاء لله، كان طيّبًا حقًّا»
قالت امرأةٌ مُسِنّةٌ في العقود الآخِيرة في حياتِها.
استقبل العزاء بِثباتٍ يتنافى عَن الدموع التِي ذرفها عليهِ.
استقر مُجددًا على كرسيهِ قبل رؤيتها وهي تدخل عليهِ بِحُزنٍ واضِحٍ عليها، سحبته بِهدوءٍ بعيدًا عن ضوضاء العزاء.
قالت بِقلقٍ اعتراها: «نور، أأنت بخيرٍ؟، المتوفي كان أكثر مِنْ أخٍ لك»
حبس دموعهُ في مُقلتيهِ دون السماح لهَا بِالخُروج ثُم هزّ رأسهِ واكتفى بِالصمت ردًّا على كلامها، نقلت بصرهَا في عينيهِ وجدت بِهُما الشرود والإنكار، والتيه.
حمحمت بِخجلٍ واضِحٍ بللت شفتيهِا مُستكمِلة حدِيثها: «نور، أنت تعرف أنّني لم اح...»
قاطعها بِجفاءٍ وقسوةٍ: «كُل شيءٍ انتهى، يكفي ما خسرتهُ، لِنظلّ أصدقاء أفضل.»
تركها عائِدًا للعزاء، مرّت عليهِ وجوهًا وأشخاصًا متنوعِةً ومُختلِفةً، عرِف بعضًا منهُم والجُزء الآخر أنكر معرفتهُ بِهم.
مرّ الوقت لِيُعلِن عنْ انتهاء العزاء، عاد الجمِيع لِبيوتِهم، منهم مَنْ كان حزِينًا حقًّا ومنهم مَنْ تصنّع الحُزن، لِلكُل مشاغلهُ الخاصة إلّا هو.
رجع لِلبيت بِثِقلٍ شديدٍ، قدمٌ تجُرّ الآُخرى.
دخل البيت، كما توقّع كان مُظلِمًا كئِيبًا بارِدًا، لأوّل مرة كَرِه العودة إليهِ.
هرول لِغُرفته، لعلهُ يجِد الدِفء الذِي يحتاجُه، أوّل صورة قابلتهُ صورته معه ومع الباقِي.
كُل مَنْ معه في الصورة غاب، لم يبقى سواه.
ظنّ أنّ الموت بعيدٌ عنهُ، ظنّ أنّه سهلٌ وبسيطٌ مِثلما يُقرأ فِي الأخبار أو في الرِوايات.
لم يعلم أنّ لِلفقد مرارة لن تُنسى، سيظلّ في داخلهُ حتّى بات جُزءٌ منهُ.
صدح صوتٌ مِنْ خارِج الغُرفة
«في يوم في شهر في سنة
تهدى الجراح وتنام
وعمر جرحي أنا أطول من الأيام»ارتمى على السرير مُلقيًا كُل أحزانهِ مَعهُ على فِراشهُ.
تذكّر أيامهُم سويًّا، رُغم موت الآخرِين إلّا أنّها كانت الضربة القاضِية لهُ ولِقلبهِ.
غَفل قلِيلًا هارِبًا مِنْ أحزانهِ بِالنوم، وجدهُ أمامهُ مُبتسِمًا بِحنانٍ ولُطفٍ.
ظلّ يُنادي عليهِ دون فائِدةٍ، هرول له لِينقض عليهِ حاضِنًا إياه وسُرعان ما تلاشى مع الهواء وكأنّهُ لم يكن.
اقترب صوت الأُغنِية لِتصير قريبة مِنهُ:
«حبيبى شايفك وأنت بعيد بعيد
وأنا في طريق السُهد وحيد
وكُل خطوة في بُعدك ليل»رنّ هاتفهُ مُعلِنًا عنْ سيل رسائِل وصلت إليهِ، أمسك هاتفهُ بِلهفةٍ، لرُبما تكون مِنه!
في اللحظة التِي فتح فيهِا الرسائِل، ضحك لا إراديًّا مُتذكِرًّا كُل رسالةٍ مِنه التِي لطالما كانت تُبعَث في وقتهِا حقًّا، وكأنّه يشعُر بِه، يتحسس على جرحهِ مُداويًا إياه.
فتح هاتفهُ وكم تحطّمت ظنونُه على صخرة الواقِع، كانت مِنْ أشخاصٍ لم يهتِم بِهم أبدًا، أغلق هاتفهُ بِتأففٍ لِيرميهِ بِعُنفٍ على الأرض.
تذكّر أيامهُم الأخِيرة سويًّا، رغم شجِارهم المُستمِر والذِي لم يكُن ينتهِي، ظل يُداهمهُ شعورًا أنّ رياح حياتهِ ستأتِي بِما لا تشتهي سفينتهُ.
حلم أنّه فقد ذراعهِ اليُمنى وفور استيقاظهُ تعلّم الكُتابة والتعامُل بِيديه اليُسرى، لم يكُن يعرِف أنّ ذراعهُ اليُمنى ما كانت إلّا هو.
«يا حبيبي شايفك وليل الفُراق
على البُعد فارد جناحه
على جريح مشتاق يعرف نهاية جراحه»وكأّن عقلهُ أبى أنّ يُريحهُ، استحضر كُل وعدٍ وكُل حُلمٍ رسموهُ سويًّا، بِداية مِنْ النجاح فِي المرحلة الإبتدائِية إلى نجاح الثانوية العامة، وعدوا أنّ يصيروا عجائِز سويًّا لا يفعلوا شيء عادا الكلام.
تذكر حُلم السفر، حُلم دخول كُليّة الآثار وفكّ أسرار الحضارة الفرعونِية.
لِمَ تركه بِمُفرده؟، لِمَ تركهُ في مُنتصف الطرِيق؟
أأحزنهُ في يومٍ؟!، أجرحهِ في يومٍ؟
أنّه حتّى كان لا يطِيق تواجد نظرة حُزن فِي عينيهِ.
«كنت اتمنى يطُول العمر وأعيش حواليك
ولا أشوف عمري دمعة حزِينة تملى عينيك»تمنّى أنّ يؤجِل هذا الموعد لو لِيومٍ واحدٍ لِيمحي كُل شرخٍ أصاب صداقتُهِم، لِيخبره عنْ مدى حُبّه لهُ وأسفهُ عمّا بدر عنه.
وهل يفِيد التمنِي أمام الأقدار؟
«كنت اتمنى بس العمر شويه عليك»
مدّ يديه مُلتقِطًا صورتهُما سويًّا والفرح كان ثلاثهُما، السعادة كانت تجلِس وسطهُم.
لِمَ كُل شيءٍ جيّدٍ مصِيره الزوال؟
«يا فرحة كانت مالية عنيّا
واستكترتها الدنيا عليّا»هبّ مِنْ مكانهِ والدموع مُنهمِرة على وجههِ، إتجه لِلمرحاض تحت أنظار أهله المُتسائِلة التِي كانت تُراقبهُ بِصمتٍ تارِكين لهُ مساحتهُ لِإخراج الحُزن.
كيف يُساعدونهُ؟
كيف يهونون عنه؟أتكفي كلِمات الرِثاء في تِلك اللحظة؟
أمسك أداة الحِلاقة كاسِرًا إياها، مُستخرِجًا الشفرة، لِينظُر لِلمرآة قائِلًا بين دموعه:
«سألحق بِك يا زِين! انتظرني!»مرر الشفرة على وريدهِ تارِكًا الدِماء تسِيل مُعلِنة عن انتهاء حياتهِ.
«في يوم في شهر في سنة
تهدى الجراح وتنام
وعمر جرحي أنا أطول من الأيام»- في يوم في شهر في سنة
-غِناء: عبد الحليم حافظ
-تأليف: مرسي جميل عزيز
- تلحين: كمال الطويل.12/12/2021.
تم التعديل: 11/9/2023
أنت تقرأ
آراء مُتسلطة
Randomمَنْ أنا؟ لَرُبما تسألت سَيْدي عَنْ مَاذا أكون؟ باختصارٍ سَيْدي، أنا صوتُ صِياح كُل طَالِبٍ أو مُرَاهِقٍ مصري أو مصريةٍ، أنا الصوتُ المُهَمَّش غير المَسْمُوع. أنا الأفكَار والآراء التي يُهمِلها الكُل بِحُجّة صُغر السِنْ. أنا دائمًا المَنسِي وَسَط...