.

279 27 5
                                    

[ رحلة في الماضي]

لقد كان راي شابا في مقتبل العمر ، يعيش في كنف اسرة تنتمي لطبقة النبلاء ، و قد كان والده ضابطا مقربا من الاسرة الحاكمة ، و ذو نفوذ كبير ، و له مكانة خاصة في قلب كل من عرفه فقد كان رجلا نبيلا ، شهما و طيب القلب رغم قسوته ، اما والدته فقد توفيت بعد ولادته مباشرة اثر حمى اصابتها، و كان لموتها اثر كبير على الوالد الذي اقسم ان لا يتزوج بعد وفاتها ابدا .
انضم راي الى الجيش في سن الثامنة عشرة و امضى سنتين قاسيتين من التدريب تعرف خلالهما على سينشي الذي بات له صديقا و اخا و مؤنسا للوحدة التي لطالما احس بها ، و بعد سنتين متعبتين افترق كل من الصديقين عند موعد انتهاء التدريب ليعود كل منهما من حيث اتى ...
لم يكن راي سعيدا بعودته الى المنزل ، فهو سيعود وحيدا مجددا ، حتى انه عند وصوله لم يجد والده بل استقبلته سيرينا و هي المربية التي لطالما خاطبها قائلا "امي " و لكنها لم تكن وحيده هذه المرة ، بل كانت تقف الى جانبها فتاة و كانها نور القمر منعكس على صفحة بحيرة هادئة . كان الليل المرصع بالنجوم اللامعه منسدلا حتى اسفل ظهرها ، و عيني المهى تتربع فوق ثلوج الوجه المزينة بفم احمر و انف كانوف الاطفال .
-" مرحبا .." قال راي مخاطبا الفتاة بعد ان القى ابتجية و عانق سيرينا . فاجابته وقد توردت وجنتاها :" مرحبا سيد راي ... لقد سررت بمقابلتك ."
-"بل انا المسرور بلقائك ، ارجوكي ان اسمي هو راي فقط .."
-" حسنا سيد راي ... اقصد راي " اجابته متلعثمة .. فضحك ثم سالها و الابتسامة لا تزال تعلو شفتيه :"ما هو اسمك "
-"انا ماري ..."
-" ان لكي نفس اسم والدتي الراحلة .."
-" حقا ...اسفة "
-" و لم الاسف ؟"قال ضاحكا فاجابت وقد ازدادت الحمرة في وجهها :"لانني ذكرتك بها .."
-" لا تقلقي... لقد قصدت ان امدح اسمك .. فقط لا غير .." ثم التفت الى سيرينا قائلا :" هيا امي لندخل جميعا فانا احتاج الى راحه طويلة ... كما انني اريد التحدث اليك قليلا ."
فقالت سيرينا بلطف :" هيا عزيزي ، ماري تعالي علينا الدخول .."
-" حاضر آنستي" اجابت ثم دخل الثلاثة الى القصر حيث كان العشاء جاهزا فجلس راي الى الطاولة مع سيرينا الا ان ماري لم تجلس بل ذهبت الى الطابق العلوي فورا .
-" اين ذهبت الفتاة ." قال راي و هو لم يتناول بعد اي شيء من الطعام .
-"ذهبت لتكمل عملها عزيزي .."
-"عملها ؟! و ماذا تعمل ؟"
-" انها فتاة يتيمة تعيش عند احدى صديقاتي ، و قبل موت صديقتي اوصتني ان اعتني بها ، و لذلك مباشرة بعد ان وافتها المنية احضرتها و اتيت بها الى هنا لتعمل كطباخة من اجل كسب عيشها و لتبقى الى جانبي اكراما لوصية صديقتي."
-" يا لها ما مسكينه " قال راي و هو يقلب الطعام ، ثم قال :"اهي من حضرت هذا ؟".
-"كلا عزيزي ، هذا اليوم الاول لها و لذلك فهي لا تزال ترتب غرفتها ...لماذا تسال كثيرا عنها ، لم يسبق لك ان سالت عن اي شخص جديد تراه في المنزل " قالت و ابتسامة غمرت وجهها فاحمر خجلا و اجاب متلبكا :"هذا لانني في الواقع ... حسنا لا اعلم ... اظن بانني تفاجئت فقط بوجودها ." فضحكت سيرينا ثم قالت :"حسنا ، حسنا ، لا تتوتر عزيزي ، انهي طعامك و اذهب لترتاح في غرفتك .."
-"حسنا ، و لكن ... اين ابي لم لم يات ." قال و قد زالت كل علامات المشاعر عن وجهه . فزالت ابتسامة سيرينا ثم قالت بحزن عميق في صوتها :" لقد رحل بالامس لاجل اجتماع مهم ، لن يعود قبل يومين ."
-" لا باس ، لا بد انه عمل مهم جدا ."
مذ ذاك اليوم الذي عاد فيه راي، و ماري تعمل بجد و تحضر ما لذ و طاب من اصناف الماكولات التي تعرفها ، كما ان سيرينا قد ساعدتها في تعلم المزيد حتى بات كل من راي و والده لا ياكلان سوى مما تحضر ، و قد كان راي يزداد تعلقا بها يوما بعد يوم بحيث كان يراقبها سرا اثناء عملها و يلحق بها عندما تذهب للتسوق ، حتى انه كان يدعوها كل يوم لشرب القهوة في غرفته بعد ان تنتهي من عملها ...
لقد احبها و احب بساطتها و طيبتها ، شعر بان هذه الروح ولدت كي تتحد بروحه ، و في يوم من الايام صارحها بما يختلج قلبه و اعترف لها بحبه و رغبته الزواج منها . الا ان الخوف اصابها فباتت تحاول التهرب منه و الابتعاد عنه قدر المستطاع رغم حبها الشديد له لانها تعلم بان هنالك مسافات شاسعه تفصلها عنه ، عالمها مختلف كثيرا عن عالمه .
و ضاق صدر راي ، و قد لاحظ جميع سكان القصر هذا فقد بدا عصبيا ،شاحب الوجه ، لا ياكل او يخرج من غرفته الا نادرا ، وبقي هكذا حتى دعاه والده الى مكتبه .
-"تفضل " قال الوالد ليعطي اذنا لطارق الباب فدخل راي الى والده ثم جلس على الكرسي امام المكتب قائلا :"قالوا لي بانك تريدني يا ابي ، هل هناك شيء مهم ؟"
-"هناك موضوع اريد الحديث به معك " قال الوالد بصوته الخشن
-"و ما هو يا ابي ؟"
-"انك لا تعجبني في هذه الايام ، انت دائم الصمت ، قليل الاكل و كثير العصبية ... و انا اعلم ان هذا بسبب وحدتك ، فبعد تعرفك الى الكثير من الشبان خلال تدريبك ان عودتك الى البيت و بقائك بمفردك سيسبب لك الكثير من الملل ..و لهذا قررت ان ازوجك لعلك تتخلص من وحدتك هذه و احظى باحفاد قبل ان ارحل ."
-"ولكن يا ابي انا لا اريد الزواج .. لا ازال غير قادر على تحمل مسؤولية كهذه " قال راي بانفعال .
-" لا تستطيع تحمل المسؤولية ؟ ام ان هناك فتاة تريدها دون الجميع ." قال الاب و كانه يعرف ما يدور في صدر ابنه -"انا ... "قال الشاب مترددا و في لحظة شجاعه منه اجاب والده :"انا اريد ماري يا ابي ."
-"انت تعلم بان هذا مستحيل !"اجاب الاب غاضبا "انها مجرد خادمة ، اشك انها تجيد القراءة حتى ، كيف تريد مني ان اسمح لابني الوحيد ان يتزوج منها ! ثم لقد خطبت لك ابنة احد اصدقائي و هي فتاة جميلة و مثقفة كما ان اهلها اناس محترمون و ليست لقيطة !"
-"لا تتكلم عن ماري هكذا افهمت يا ابي ! لن اتزوج الفتاة التي اخترتها انت بل التي اخترتها انا !"
-" ستتزوج من اخترتها لك و الا ستحرم من ميراثك افهمت !"
-" اذا فليذهب الميراث فانا لا اريده !" قال راي و خرج مغلقا الباب ورائه و تاركا والده في تعجب ، ذهول و غضب يتقد في عينيه .
بعد ما حصل ذهب راي مسرعا الى فتاته و اقنعها بانه يريد الهروب معها و بعد محاولات كثيرة قبلت الذهاب معه ، فهي لم يكن لديها الخيار ، فكما حصل مع راي لم يقدها عقلها هذه المرة بل قلبها هو الذي ارشدها .
بعد هروب راي طلب والده من الحاكم ان يمنع اي كاهن من عقد قرانه و هكذا كان ، لم يستطع راي عقد قرانه على ماري و عاشا سويا دون وجود وثيقة قانونية او الهية تربطهما ، ما ربطهما كان الحب و لا شيء اخر .. اما والد راي فقد انهكه المرض بعد رحيل وحيده حتى وصلت اخبار الى راي بان والده يحتضر فاخذ ماري و ذهب مسرعا ليرى والده و لكن عندما وصل وجده على فراش الموت ، بقيت ماري واقفة خارج الغرفة اما راي فدخل الى والده و اجهش بالبكاء فوق جسده المتالم ، استم في بكائه هذا ساعات طويلة حتى احس بيد تمسح راسه ، و اذ يد يد ابيه :
-"عزيزي راي ... لا اصدق انك عدت الي ، انا.... لقد اشتقت اليك كثيرا ... ارجوك سامحني يا بني ، لم اقصد تحزيل حياتك الى جحيم ... بني لقد انهكني غيابك و آلمني فقدانك ... لقد سجلت كل املاكي باسمك .. لم استطع ان احرمك من ميراثك .. ارجوك سامحني ..و انا اسامحك على الرحيل .." قال الوالد ثم لفظ انفاسه الاخيرة .
امضى راي شهرين في غرفته القديمه دون ان يرى احدا ، بل كانت سيرينا تحضر اليه الطعام فتعود لتاخذه كما هو و لم يكن يمس من كعامه شيئا الا نادرا حينما يغلبه الجوع .و عندما قرر العودة الى حياته الطبيعيه خرج من غرفته ليرى ماري و قد انتفخ بطنها فقال بتعجب :"ما هذا !" .لكنها لم تجب بل اكتفت بالصمت .
لقد كانت حاملا ، و لكن هذا تسبب بارتعاب راي و خوفه ... كيف له ان ينجب اطفالا غير شرعيين ؟! ما الذي سيقوله الناس و هو الآن ورث اسم ابيه النظيف . اخذ راي ماري ووضعها في جناح صغير من القصر و ابقى معها سيرينا حتى انجبت دون ان يعلم اي احد بذلك ... علت صرخاتها في المكان و هي وحيدة لا تؤنسها سوى يد سيرينا تمسح على وجهها ... حتى خفت صوتها و سمع صوت بكاء تلاه اخر ! "مبارك انهما توام قالت القابلة ثم خرجت من الغرفة .
لم يات راي ليرى طفليه بل اعتبرهما العار الذي صنعه ووجب اخفائهم عن الناس ... ابقاهم مع والدتهم في ذلك الجناح المنعزل عن بقية القصر. و لم يبق معهم سوى سيرينا التي ما لبثت ان وافتها المنية بعد وقت قصير و بقوا بمفردهم .
كم هو صعب ان تدفع ثمن جرم لم ترتكبه ، او ان ترى نفسك مجرد خطيئة ، انت جئت الى هذا العالم عبر خطيئة و ستعيش خطيئة و تموت خاطئا ، لا تعلم من انت ، و لا احد يعترف بوجودك ، تائها في ذاتك ، تتشعب داخلك الطرق و لا تدي اي طريق تسلك ...
تخيل ان تفقد جزئك الاخر حتى لو لم يكن هذا الفقدان كليا لكن بات هناك شرخ ، عندما تفقد جزئك الاخر ليذهب الى الشخص الذي كان سبب ماساتكما و يساعده ، عندما تفقد المراة التي لم يجبرها على الحياه سوى وجودك فيها ، ان تفقد الام التي عانت لاجلك و تحملت سنوات من القهر و الاسى مبتسمه لاجل سعادتك ، ان تبقى وحيدا تبحث عن امل ، ثم يظهر اليك الامل من فتحه صغيرة في جدار حياتك، ان تحاول الامساك بخيط النور الوحيد و لكنك تجد بان الشخص الذي اسكنك في جحيم يحاول اخذه منك ايضا . ستشعر بنار تندلع في صدرك ،و قوة تستطيع كسر ذلك الجدار ، ستشعر برغبة في ان تضم خيوط النور تلك حتى تلفظ انفاسها الاخيرة !

غرباءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن