الفخ

11 2 0
                                    

كانت أم راني تجلس في الصالة وقد أعدت فنجانين من القهوة كما اعتادت أن تفعل عندما يأتي راني لعل تخيله بأنه موجود معها يخفف من وجع الوحدة التي تعيشه بعد أن فقدته كما فقدت  ، زوجها في الحرب سبقت قرعة جرس الباب الدموع التي كانت ستغزو عينيها اتجهت بخطواتها البطيئة نحوه لتجد يارا تقف خلفه فطلبت منها الدخول وأخذت تقبلها فغلاتها على قلبها مثل راني .
نظرت يارا إلى فنجاني القهوة الممتلئين باستغراب ، فقاطعت أم راني نظراتها قائلة بحسرة :لقد حلمت عندما غفوت منذ قليل أن راني هنا ويريد مني أن أعد له فنجاناً من القهوة .
غرقت يارا في شرودها بعد أن سمعت هذه الكلمات حيث أخذها عقلها إلى شرفة منزلها حيث كانت تجلس يوما مع راني تشرب القهوة  و عندما أنهت فنجانها أمسكه مبتسما وأخذ يتمعن في النظر فيه متظاهراً بأنه يقوم بقراءته قائلاً : لديك في فنجانك حرف الراء يبدو أنك تحبين شاباً يبدأ اسمه بهذا الحرف....إنه لا يحبك.... بل مجنون في كل تفاصيلك... سوف تنجبين منه أربعة أطفال سيحبهم كثيراً لأنكِ والدتهم لكنه سوف يتخلص من كل طفل تفضلينه عليه...
قاطعت شرودها أم راني و هي تقول : يارا ... هل أنت بخير؟.
ابتسمت و ردت بصوت مخنوق يقاوم البكاء : أجل بخير لا تقلقي ، هيَا جئت لآخذك لتناول العشاء معنا.
وقبل خروجهما تناولت أم راني مفتاحاً من على الطاولة و أعطته ليارا قائلة : إنه مفتاح راني لقد نسيه هنا قبل ذهابه أظنه كان يعلم أنه لن يعود، أبقيه معك و يمكنك الدخول إلى المنزل متى شئت بدون قرع الباب فهو منزلك الثاني.
أمسكت المفتاح بحزن ووضعته في جيب بنطالها القطني الذي ترتديه .
*****
على مائدة العشاء كانت يارا تجلسُ بجانبِ أمِ راني تناولها الطعامَ بيدها وتمازحُها لعلها تستعيدُ صحتها ونورَ وجهها الذي انطفأ بعدَ خبر وفاةِ ابنها ،محاولة أن تتظاهرُ بالقوةِ رغم قلبها المُحطم وروحها المشوهة بعد خسارتها لشقيقها التوأم الذي كان فراغ الكرسي الذي اعتاد أن يجلس عليه عند تناول الطعام كفيلاً بإشعال النار في كل زاوية من زوايا قلبها و حب طفولتها الذي لطالما انتظرت هي وهو أن يكبرا لتربطهما علاقة رسمية .
و بعد الانتهاء ابتسمت يارا ونظرت إلى سُمية قائلة: هل الواتس أب على هاتفكِ النقال مُخزنٌ على بطاقةِ الذاكرة أم على ذاكرةِ الهاتف؟
سمية : على بطاقةِ الذاكرة لكن لماذا؟
يارا: هلّا تُعطيني بطاقةَ الذاكرة لأنسخَ التطبيقَ على هاتفي النقال القديم؟
سمية : حسناً .
أخرجت سُمية بطاقة الذاكرة من هاتفها النقال وأعطتهُ ليارا التي أخذتهُ ووضعتهُ بهاتفها القديم وقامت بنسخِ التطبيق وإعادة الكرت فوراً.
لم تكن سمية تعلمُ أن كُل المحادثات الخاصة بها سوفَ تنسخُ أيضاً مع التطبيق الذي نسختهُ يارا وتصبح على هاتفها النقال، وأن غايةَ يارا من هذا العمل أن تعرفَ ما الذي تخططُ لهُ و تخفيه .
*****

دخلت يارا إلى غُرفتها و فتحت التطبيق  لترى أن آخر محادثة كانت مع شخصٍ يضعُ صورتهُ على ملف التعريف للبرنامج وكان يبدو من لباسهِ ولحيتهِ وهيئتهِ أنهُ ينتمي إلى مجموعة مسلحة متشددة .
تفاجأت وارتعش قلبها خوفا وأخذت تقرأُ المحادثة لتجد بأن سمية قد اتفقت معهُ على أنها ستقابل  الشابِ العسكري علي في اليوم التالي بعد انتهاءِ امتحانها في أحدِ أطرافِ قريةِ ميرال القريبة من قريتها وأن هذا الرجل سوف يرسل مجموعة مسلحة لأخذِ هذا الشاب وأسره في قريتهم .
ارتبكت يارا وغضبت غضباً شديداً ، ثُمَّ أمسكت هاتفها النقال واتصلت بقائدِ اللجان الشعبية في قريتها وعند إجابته قالت بصوت منخفض : مرحبا كيف حالك؟.
القائد: الحمد لله و أنتِ؟
يارا : أريد أن أراك فوراً لأمر مستعجل.
القائد: عشرة دقائق و سأكون عند منزلكِ.
يارا : لا.. سوف آتي أنا إليك و عندما أصل أشرح لك لماذا.
القائد : حسناً أنا في انتظارك في المقر.
*****

خرجت من المنزل وهي تحاولُ أن تتصرف على طبيعتها كي لا تشُكَ سُمية بأنها قد اكتشفت أمرها وذهبت إلى مكتبِ قائدِ اللجانِ وأخبرتهُ بما حدث والخوف والحقدُ يجريان بدلا من الدماءِ في عروقها.
اخبرَها بأن تتصرف بشكلٍ طبيعي وأن تتركَ كل شيء يسيرُ وكأنها لا تعلمُ شيء، وطلب منها القدومِ إليهِ في الصباح الباكر لإنشاءِ كمينٍ مُحكم في تلك الأرض وقتلِ جميعِ الرجالِ المسلحين الذين سيأتون لخطفِ الجندي وقتلِ سمية معهم.
*****
عندما عادت إلى المنزل وجدت ميرال وسمية تشربان العصيرِ على الشُرفةِ  ، فنظرت إليهما مُبتسمة ولو كان الأمرُ بيدها لاقتلعت قلبَ سُمية بيديها وقامت بتمزيقه، ثُمَّ نظرت إلى ميرال قائلة : غداً عودي بعد الامتحانِ على الفور فأُريدُكِ أن تذهبي معي لشراءِ بعض الحوائج من المدينة .
ثُمَّ نظرت إلى سمية وأكملت كلامها قائلة : وأنتِ سمية يُمكنُكِ المجيءُ معنا إن رغبتِ.
ردت ميرال قائلة : حسناً لن أتأخر.
*****

بعد أن دخلت يارا إلى غُرفتها ، نظرت سُمية إلى ميرال غاضبة وتحدثت لها بصوتٍ خافتٍ قائلة: ألن تذهبِ معي من أجلِ رؤيةِ علي؟ سوفَ يحضرُ صديقهُ من أجل أن تتعارفان على بعضكُما.
ميرال : لا أدري فأنا خائفة وأخبرتُ يارا أنني لن أتأخر.
سمية  : لا تخافي لن نتأخر ، سننهي امتحاننا باكراً ونذهب ولن يرانا أحد لأننا سنقابلُهم بعيداً عن المنازل .
ردت ميرال مرتبكة : حسناً.
وافقت وهي قلقة بشأنِ هذا وغير مطمئنة لكنها لم تُرد أن تغضبَ منها صديقتها .
*****
و في صباحِ اليومِ التالي استيقظت يارا باكراً على صوتِ الساعة المنبهة ، وغسلت وجهها ثُمَّ هيَئت نفسها للذهابِ إلى المُهمة لكن قبل مغادرتها إلى منزلها دخلت إلى غُرفةِ جورج وفتحت خزانتهُ والدموعُ ترقرقت في عينيها وأخرجت قبعتهُ الشتوية عانقتها وشممت رائحتها بعمق ثمَ ارتدتها ،  توجهت بعد ذلك  إلى منزلِ راني وفتحت البابَ بالنسخة التي أعطتها إياها أم راني لأنها لم ترد أن توقظها، دخلت إلى غُرفتهِ بهدوء ونظرت إليها بتمعن وإلى تفاصيلها الحزينةِ بعد غيابه ، فتحت باب خزانته ونظرت إلى ملابسهِ وهيَ تتذكرُ جمالَ هذه الثيابِ على جسدهِ الرُجولي الصلب ، بدأت الدموعُ تتساقطَ من عينها، ثُمَّ أخرجت وشاحاً كانَ يُحبُ أن يرتديهِ دوماً ولفتهُ حولَ عُنقها ثم  كفكفت دموعها عن خديها وغادرت المنزل مُغلقةً البابَ خلفها بلطف.
*****
استيقظ جورج من نومهِ ونظرَ إلى أملِ التي كانت نائمةً بجوارهِ وطبعَ قبلةً رقيقةً على جبينها ثُمَّ نهضَ فأمسكت ذراعهُ بلطف وفتحت عينيها ببطء وقالت بصوتِ يغلُبُ عليهِ النُعاس: ابقَ أرجوك.
فنظرَ إليها بحزن قائلاً : عليَّ الذهاب إلى مهمةٍ بعد قليل مع راني وبعض الرجال .
نهضت أمل وعانقت جورج وأخذت تبكي ، فأبعدها عنهُ بلطف و نظرَ إلى عينيها قائلا : لماذا البُكاء؟.
مسحت دموعها التي كانت تذرفها بغزارةٍ وردت بصوتٍ مبحوحٍ حزين : أتوسلُ إليكَ أن تعتني بنفسك ، لا أريدُ فقدانك فأنا  أُحبُكَ كثيراً.
أمسكَ جورج يدي أمل وقبلهُما ثُمَّ نظرَ إلى عينيها قائلاً: لا تقلقي و إن لم أعد لقد أخبرتُكِ عن عنوانِ منزلِ عائلتي اذهبي إليهم وأخبريهم عما جرى.
عانقت أمل جورج مجدداً وهمت بالبُكاءِ قائلة : أرجوك اعتنِ بنفسك إن لم يكن من أجلي فمن أجلِ طفلنا القادم... سأجهز الإفطار لنأكل سوياً قبل أن تذهب.
ثم دخلت إلى المطبخ  و قلبها يخفق خوفاً ففي كل مهمة كان يذهبها كانت تمضي الوقت أسيرة مخاوفها تسجد و تصلي ليعود لها سالماً كانت تعتبره النعمة التي تشكر الله عليها دوماً كي لا يحرمها منها ، أما جورج فشعور غريب ينتابه فكيف سيكون قريباً إلى هذا الحد من منزله و قريته ولا يتمكن من رؤية عائلته كيف سيتظاهر أنه غريب عن المنطقة و كل نسمة فيها ستفجر الحنين بداخله.

ابق حياً مهما كلف الأمرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن