لهيب الشوق

9 2 0
                                    

كانت يارا تُحدثُ راني عن كُلِ ما حدثَ في غيابه ، فعاتبها
كثيراً لأنها تركت دراستها وانضمت إلى اللجانِ المقاتلة الشعبية وطلبَ منها أن تترُكَ العمل وتعودَ لدراستها لكنهُ لم يقسو عليها فقد كانَ يعلمُ أن كُلِ ما فعلتهُ كانَ بسببِ خيبةِ فقدانه ، كما أنهُ فرحَ كثيراً عندما علمَ أن جورج مازال حياً وحاولَ التخفيفَ عنها ورسم الابتسامة على وجهها كي لا تشعُرَ بالذنب.
قطع حديثهم صوت طُرِقَ البابُ لسيطرَ الذُعرُ على قلبِهما ظناً منهما أنه رُبما يكونُ أحدُهما قد اكتشفَ أمرهما ، ثُمَّ اقتربت من البابِ وقالت : من الطارق؟.
فأجابها رجلٌ قائلاً : لقد أرسلَ لكِ القائدُ معي بعضَ الأشياء .
نظرت يارا إلى راني وقالت لهُ بصوتٍ خافت : اختبِئ في الغرفة بالداخل .
دخلَ راني واختبئ وقامت يارا بتغطيةِ شعرها و وجهها وفتحت البابَ قليلاً ووقفت خلفهُ لتناولِ الأغراضِ من الرجل ، فدفعَ الرجُلَ البابَ بقوة ، كان هو نفس الرجل الذي كان يتحدثُ على الهاتف النقال ،دخل وأغلقَه خلفهُ فصرخت يارا خائفة: ماذا تُريد؟؟؟؟؟ .
فنزعَ لها بعُنفٍ النقابَ وغطاء شعرها وقال لها وكانت لهجتهُ غير سورية : أنتِ جميلة.
فركضت هي باتجاهِ الغُرفة لكنهُ استطاعَ إمساكها من ذراعها ودفعها ليوقعها بقوةٍ وسطَ أرضِ الصالة ، ثُمَّ أشهرَ بُندقيتهُ نحوها قائلاً : سأقتُلُكِ إن تحركتِ أو أصدرتِ صوتاً .
كانَ راني يُراقب ما يحدُث من نافذةِ الغُرفة المطلة على الصالة ، ثُمَّ خَرَجَ بهدوء و ضربَ الرجُلَ من الخلف بكعبِ بُندقيتهِ على أسفلِ رأسهِ.
وقعَ الرجلُ أرضاً ، و اندفعَ راني نحوها مساعداً إياها على النهوض ثُمّ ضمها إليهِ وهيَ مُرتجفةٌ خائفة وقال لها : اهدأي أنا هنا معكِ.
فردت عليهِ بصوتٍ باكٍ مُشيرةً بسبابةِ يدها إلى الرجُل: اقتلهُ أرجوك إنهُ لا يزالُ حياً.
أجلسَ راني يارا على الأريكة بهدوء ، ونظرَ حولهُ في الصالة فرأى مجموعةً من البلاطات مصفوفةً فوقَ بعضها في أحدِ الزوايا ،  فأمسكَ بلاطتين منهُما وقام بضربِ الرجُلِ فيهما بكُلِ ما يملكُ من قوة على رأسهِ حتى تأكدَ من موتهِ.
ثُمَ أمسكَ بالغطاءِ الذي كانت تُغطي بهِ يارا شعرها وعينيها والذي كانَ مرمياً على الأرض وجلسَ بجانبها على الأريكة وأخذُ يمسحُ دموعها ثُمَ عانقها وهي لا تزالُ ترتجفُ من الخوف وأخذَ يُلبسُها إياه ثُمَّ نظرَ إلي عينيها بحُزن قائلاً : عليكِ الرحيل الآن ، فبعدَ قليل تنطلقُ الحافلة الأخيرة اليوم من القرية باتجاهِ المدينة.
تساقطت الدموعُ من عينيها بحرارةٍ ، كانت دموعاً ساخنةً تنبعُ من جوف قلبها المُحترق على فُراقهِ ووضعت كفي يديها على خديهِ قائلة: يصعبُ عليَ فراقُكَ .... سيقتلني غيابك.
ترقرقت الدموع في عينيهِ وردَ قائلاً : أرجوكِ لا تُعذبيني أكثر يا حبيبتي.
سأخرجُ الآن من المنزل وسأنتظركِ عند موقف الحافلات حتى أؤمنَ أنكِ صعدتي بأمان أخرجي خلفي مباشرةً.
قبل أن يصل إلى الباب الخارجي عاد إليها وعانقها بكل ما يملك من قوة وهو يقول بصوت باكٍ: أريد أن أحتفظ ببعض من رائحتك و أنفاسك على ثيابي لتعطيني القوة كلما شعرت باليأس .
ثم فك عقدة شريط حريري كانت تضعه للزينة حول عنقها بلطف ووضعه في جيبه ، قالت بصوتها المليئ بالوجع : اعتن بنفسك لأجلي...تذكر دوماً أني أحبك...سأكون بانتظارك .
رد محاولاً إخفاء دموعه : هيًا حبيبتي عليكِ الذهاب.. قلبي سيبقى معكِ و لكِ مهما طال البعد.
أخرجت من حقيبتها هاتفها النقال القديم (تواصل معي كلما سمحت الفرصة ).
*****
نظرت يارا من نافذةِ الغرفة المطلة على الشارع للتأكدِ من خلوهِ ثم أشارت لهُ بالخروج ، و بعد دقيقتين خرجت خلفهُ متجهةً إلى الشارع الرئيسي ، حيث وقفت تنتظرُ الحافلة بينما كان هو واقفاً حزيناً مُستنداً على جدرانِ أحدِ الأبنية المُهدمة ينظرُ إليها بينَ الحينِ والآخر يكاد يخنقهُ غيابها من جديد وهيِ تبادلهُ النظرات بحزن.
قدمَت الحافلة وصعدت إليها ثُمَّ التفتت نحوَ راني مودعةً إياهُ بعينيها اللتينِ لا تقويانِ على فُراقهِ ،  أعطت النقودَ للسائق وجلست على أحدِ المقاعد وأخذت تنظُرُ إليهِ من النافذة.
تابعَت الحافلة  طريقها وعادَ راني وهو يمسحُ دموعهُ التي غلبت على قوتهِ.
*****

طلبت من السائقِ إيقاف الحافلة عند وصولهِ إلى مُنتصفِ الشارعِ الرئيسي لقريتها، ونزلت منها مُتوجهةً إلى أحدِ محلاتِ بيعِ شطائرِ اللحمِ وطلبت شراءَ كمية وفيرة منها ، ثُمَّ أخرجت هاتفها وقامت بالاتصالِ بوالدتها للاطمئنانِ عن حالِ جورج ، جهزت طلبية الشطائر فأخذت الكيسَ وتوجهت نحوَ منزلها وهيَ تفكرُ بحالِ راني وكيفَ عليها إخراجهُ من هناك ، كما تتمنى أن يستعيدَ شقيقها صحتهُ وعافيته.
حين وصلت إلى أمامِ منزلها رفعت النقابَ عن وجهها و طرقت البابَ بلُطف ، نهضت أمل التي كانت تجلسُ على الأريكة بجانبِ ميرال و كانت تأملُ في نفسها أن يكون الطارق هوَ يارا فهي تخشى أن يكتشفَ أمرها أحدهم ولا تستطيعُ العودة .
عندما فتحت  الباب انتعشَ قلبها عندما رأتها، وحمدت الله أنها قد عادت بخير، دخلت يارا وأغلقت أمل البابَ خلفها ، نظرت ميرال إليها مُتعجبةً قائلة: يارا هذهِ أنتِ!!!! لما ترتدينَ هذه الملابس.
وضعت كيسَ الشطائرِ على الطاولة وردت قائلة : سأخبرُكِ بكل شيء لكن بعد أن أبدل ملابسي ونتناول الطعام.
ثمً دخلت إلى غُرفتها وأخرجت هاتفها النقال من الحقيبة وأرست رسالةً إلى راني تخبرهُ بوصولها بخير وحاولت الاتصالَ بهِ لكن رقمهُ كان خارجَ نطاق الخدمة بسبب ضعفِ شبكةِ الاتصالِ في تلك القرية فبدلت ملابسها وهيَ شاردةُ الفكرِ و كأنها قد تركت عقلها وقلبها هُناكَ وعادت بروحٍ خالية ، أرسلت له رسالة أخرى كما اعتاد سابقاً أن ترسل له حيث أنها تمتلك أسلوباً جميلاً في الكتابة قالت فيها(أحببتك حباً عجزت كل كتب الأرض على أن تشي بنصفه، حباً أبلغ من جميع اللغات و أعمق من كل تفاصيل الوصف، حبا طغى على غروري لأصبح نرجسية بك ،فماذا أقول و أنا المتيمة بعد أن أخفقت كل محاولاتي على التعبير عنه)، ثُمَّ أعدت الشاي و حضرت طاولةَ الطعام ، كان هناك دافع يجعلها تفعل كل شيء برغبة كما لم تعتد أن تفعل منذ جاءها خبر شهادة شقيقها وخطيبها .

ابق حياً مهما كلف الأمرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن