يا أملي

7 2 0
                                    

كان راني مستلقياً في الغرفة تأخذه الذكرى إلى حيث كانت روحه تتوق لأن تعود، هناك حيث كان ينهي يومه بوجوه كان الأمل ينطلقُ إليه عبرها يتقلب في سريره أرقاً لكنه لم يكن أرقاً للنوم بقدر ما كان أرقاً للحياة .
دخل جورج فنظر إليه راني قائلاً بسخرية يغلب الحزن عليها : هل أعجبتك عروسك؟.
فرد مبتسماً : اسخر مني لكن دورك لن يطول أيها المتيم.
أخذ جورج يخبره بالحديث الذي دار معه في منزلِ أمل وعندما انتهى  قال  راني مُتحمساً : رُبما ستساعدُنا في التواصلِ مع عائلاتنا.
رد جورج حزيناً: الأفضلُ لنا بأن لا نتواصل مع أحد.
رد راني باستغراب : لماذا!!!.
جورج : لقد متنا بنظرِ عائلاتنا  والأفضلُ أن لا نخبرهم بأننا على قيدِ الحياة إلا إذا استطعنا الخروجَ من هُنا ، فإذا أخبرناهم قبل أن نخرج سيفرحون بهذا وإذا متنا حقاً ونحن هُنا قبل أن نراهم سيكونُ حزنهم أشد .
أخفض راني رأسهُ حزيناً : أنت محق لن نتسبب لهم بهذا الالم مرتين.
****
كانت يارا تنظُرُ من نافذتها نحو حديقةٍ المنزل مبتسمة وقلبها يحترقُ من لوعةِ الفراقِ وهي تتذكرُ كيفَ كانت تلعبُ في طفولتها مع جورج وراني وكيفَ كانت تجلسُ جانباً وتبكي عندما يمنعانها من اللعبِ معهما حتى يأتِ راني ويمسحُ دموعها و يسمحُ لها باللعبِ رغماً عن جورج
ثُمَّ استلقت على سريرها وأخذت تبكي  وتبكي حتى أنهكها البُكاءُ وغرقت في النوم.
****

في صباحِ حضّرت أمل الإفطار وطلبت من أحد الأطفالِ الذي كانَ ماراً من الشارع الذي أمامَ منزلِها أن يذهبَ ويندهَ لمحمد أي لجورج ليأتي.
لبّى جورج دعوةَ أمل وجلسَ يتناولُ الإفطارَ معها ، وهيَ تنظُرُ إليهِ بين الحينِ والآخر وهو يتناولُ الطعام دون رغبة ثُم قالت لهُ : ألم يُعجبكَ الطعام؟
جورج : بلى.
أمل: لكن لماذا أشعرُ أنكَ تتناولهُ دون رغبة.
جورج: لقد اعتدتُ تناولَ الطعامِ مع صديقي ، كما تذكرتُ عائلتي فلقد اشتقتُ إليهم كثيراً.
اقتربت أمل من جورج وجلست بجوارِهِ وهي تنظُرُ إلى الدموع التي ترقرقت  في عينيهِ وهو يحاولُ إخفاءَ حُزنه ، فمسحت بكفي يديها على وجههِ وعانقتهُ وهي تقولُ لهُ : لا تحزن أرجوك.
كانت الدموعُ تُذرفُ من عيني جورج و عانقَ هو أمل أيضاً وهو يبكي بصمت  وكأن روحهُ كانت تتوقُ لحنانٍ فقدهُ منذُ مُدة وقلبهُ متعطشٌ لعناقٍ كهذا .
ثُمَ ابعدَ ذراعيها عنهُ بلطف ونظرَ إلى عينيها المليئتين بالدموع التي غمرت بعضها خديها فقام بمسحها\ برفق.
قالت لهُ : أشعرُ أنك قد ظُلمتَ مثلي.
جورج : ربما .
أمل : أخبرني ما قصتُك ، أعدُكَ بأن لا أُخبرَ أحداً.
أخذ جورج يُخبرُ أمل بقصتهِ هو وراني وكانت الغصات المحزونة تعلقُ في حُنجرتهِ بينَ الحين والآخر فلم يكُن هناكَ شيءٌ يُخففُ عنهُ ألمهُ سوى عودتهِ لقريته، كانت تُبدي تعاطفاً لحالهِ وتحاولُ أن تواسيهِ ، ثُم طلبت منهُ أن يذهبَ ويجلبَ راني ليتناول الإفطار معهُما.
سُرَّ جورج بطلبِ أمل وأحسَ بأنها ستكونُ هيَّ الدواء الذي سيُخفف عنهُ وجعهُ في غُربتهِ عن أهلهِ التي يعيشُها ضمنَ جزءٍ من وطنهِ.
****
كانت يارا تتدربُ على حملِ السلاحِ واستخدامهِ بمساعدةِ أحدِ الشبانِ الذين يعملونَ في لجانِ المقاتلة الشعبية.
ومع الأيام أصبحت فتاةً قويةً صلبة تحكُمها عقيدةُ الانتقام ، بدأت تدريجياً تخرُجُ مع مجموعةٍ من الرجال في مهامٍ لحراسةِ أطرافِ قريتهم الحدودية مع قرية المسلحين ، وأحيانا كانت تخرجُ مع فريقٍ من الرجالِ المقاتلين كمؤازرةٍ لفرقِ الجيشِ التي كانت متواجدة في القُرى المجاورة لقريتها عند تعرُضهم لهجومٍ.
كانَ بعضُ الرجالِ يتعجبونَ من قوتها واندفاعها ، لم يكونوا يعلموا أن تلك الفتاة المسكينة هي شبحٌ من بقايا ماضٍ أليم لم يتبقَ لهُ شيء يخشى فقدانهُ.
****
أصبح جورج و أمل يُحبانِ بعضهُما كثيراً حيث كان زواجهما بلسما يخفف من آلام الجروح التي سبقته، فوجد جورج من يُهونُ عليهِ بعده عن عائلته وينسيه ولو قليلاً من العذابِ الذي يمرُ بهِ ، دخل إليها ذات ليلة ليجدها جالسة على الأريكة في شرود منعها من القدوم إليه وعناقه كما اعتاد أن تفعل عند عودته للمنزل ، اقترب منها بقلق و مسح على كتفها برفق فارتعدت ثم نظرت إليه و عانقته قائلة بكلمات بين الشوق و البرود المحير : حبيبي آسفة لم انتبه لقدومك.
رد مازحاً : ما الذي يشغل بال أميرتي إلى هذا الحد إذا كنتي قد مللتِ حبي فسوف أذهب.
قالت بلهفة : لا... لا يمكن أن أملَ حبك فأنت الرحمة التي أنزلها الله رأفة بي...لكنني أخاف أن أفقدك لا قدر الله ...أخاف من يوم أنتظرك فيه و لا تعود  أو أن تتخلى عني بسبب اختلافنا... في كل صلاةٍ لي أدعو لك لا أشعر بالسكينة إلى وأنت بجانبي...إنه شعور قد فاق الحب....عدني أن....
لم تستطع إكمال كلامها لأن الدموع كتمت على الكلمات و كانت الغصات أفصح تعبيراً من كل تلك المشاعر، قربها منه أكثر وهي تعانقه و لو استطاع لخبأها داخله كي لا يفترقا أبداً وتمتم في أذنها بصوته الذي كان يصبح أكثر حناناً عندما يحدثها: ما بكِ يا روحي... ما بكِ.. لماذا كل هذا الحزن... لن أخرج من هذه القرية إلا و أنت معي اطمئني ... وسأبقى سالماً طالما أنت تحبينني وتدعين لي في صلواتك.
نظرت إلى عينيه بينما هو يتأل جمال رموشها بعد أن غمستها الدموع و نطقت بما كان يقلها : أنا أحمل طفلنا في أحشائي.
ارتبكت نظراته مندهشاً وسبق الحزن الفرح إلى قلبه ، لم يكن يخشى أن يكون اباً بقدر ما كان يخشى على ابنه من القدوم إلى الدنيا في ظل كل تلك العقبات التي يواجهها  وخصوصاً بعده عن قريته و عائلته .
أمل بائسة : لقد حدث ما خشيته أعلم أنك لست سعيداً... كم تمنيت لو  رأيت الفرح في عينيك عندما أخبرتك.
ثم طأطأت رأسها : سوف أتخلص من الجنين.
أمسك يدها وقبلها :  لست حزيناً .. لا أريدك أن تتخلصي منه فهل هناك أجمل من ينجب الرجل طفل من امرأة يحبها ... أنا فقط قلق من الظروف التي نعيشها هنا .
ردت و الأمل يتلألأ في عينيها : حقاً لن تكون حزيناً إن انجبته!!!!!؟؟؟؟.
جورج : لا يا أملي ... سأحضر أنا العشاء الليلة  .
و توجه إلى المطبخ بينما بقيت هي جالسة والفرح يتوهج منها.

ابق حياً مهما كلف الأمرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن