تسللت إلى مكتبه بخفة... كان جالسا في الناحية الأخرى ولم ينتبه لدخولها... إندهشت وهي تضع القهوة أمامه على الطاولة. أهكذا إذا! كل الوقت الذي يقضيه منعزلا بهذا المكان ليس فقط للعمل، و إنما للعب أيضا! رفع رأسه وهو يلاحظ يدها على الكوب... إبتسم شاكرا وعاد ليكمل تركيب القطع بكامل تركيزه. لاحظت اللوحة التي يحاول إتمامها، صعبة جدا لكنه ماهر إذ أوشك على إنهاءها... -لم أكن أعلم أنك تهوى ألعاب التركيب.. جلست أمامه وهي تشاهده بفضول. إكتفى بهز رأسه والإبتسام... ملت الجلوس بصمت... واضح أن جل تركيزه بالقطع التي أمامه... كأنه لا يراها... تجولت يداها بين الرفوف تبحث عن كتاب جيد و عيناه تراقبانها بفضول... وجدت أخيرا ضالتها. لوحت بالكتاب بيدها فهز رأسه وعاد للعبته في حين إنزوت هي بجانب نافذة الشرفة. ممل جدا! مشاهدة السماء وهي تمطر أفضل من ريان ولعبته و كتبه! وقفت لتغادر المكتب لكن خطرت على بالها فكرة.. إبتسمت بدهاء قبل أن تعود لتجلس إلى طاولته و الدهشة بعيناها :"ريان ألم تلاحظ شيئا؟" -ماذا؟ أجابها دون النظر إليها إقتربت أكثر كأن الأمر خطير "لقد دخل إلى البيت سارق!" توقف فجأة... البيت! لما لا تقول بيتنا ببساطة! ألا تشعر بأنه بيتها أيضا؟ ألا تشاركه سقفه وجدرانه؟ - لا يمكن، لكان جهاز الإنذار قد إشتغل. - "ربما تكون لصة!" أجابته وهي تلف شعرها بيدها... نظر إليها مطولا ثم عاد للعبته، فإستطردت قائلة "لقد خمنت أنها أنثى لأن فساتيني قد إختفت كلها! فماذا سيفعل لص بفستان؟ لن يلبسه أكيد!" توقف فجأة عن اللعب... أخذ كوب القهوة و شربه دفعة واحدة "شكرا على القهوة" مد لها الكوب فارغا وعيناه تهربان منها. مدت يدها و أجابته "بل شكرا لك!" - على ماذا؟ سألها بحيرة رفعت يدها مبتسمة "على كل شيء!" بقيت عيناه مثبتتان على يدها المضمدة... إنتبهت بسرعة فإستدركت "أقصد على المثلجات" رفع رأسه إيجابا و عاد لقطعه المبعثرة يجمعها... - ماذا ستفعل بها بعد أن تنهيها؟ كان الفضول واضحا على وجهها.. - سأعطيها. - لمن؟ - دور رعاية. - رعاية؟ هل تذهب أنت لهذه الأماكن! نظراته إليها كانت غريبة! لم تتوقع أنه من النوع الذي قد يذهب لتلك الأماكن! - لا، لا أذهب... أجابها ببرود "بل أبعثها مع أحد العمال" - أها! توقعت هذا! أجابته بسخرية... توقف عن اللعب فجأة... كان يركض بسرعة ليختبيء منها... في حين كانت شتائمها تنهال عليه... كان مجرد طفل، لكنها تحقد عليه كأنه السبب في كل مصائبها... إختبأ تحت الطاولة وهو يشاهد كعبها العالي يطوف بالمكان بسرعة... كان صوت صراخها مرعب وهي تتوعده بالعذاب... فجأة سحبته من تحت الطاولة... عض يدها وهرب منها وهي تلاحقه... أمسكت به أخيرا وهي تحاول إفتكاك القلادة منه... وضعها بفمه و أطبق عليها حتى لا تأخذها منه... جعلت تهز جسده النحيل بقوة حتى يبتلع العقد أو تخرجه من فمه... قاومها وحاول الهروب منها... حاولت اللحاق به لكنها وقعت من على الدرج... بقي يشاهدها وهي تتلوى من الوجع ... هرب راكضا ليعاود الإختباء... كان مرعوبا... سمع الجلبة إثر ذلك... والده يبحث عنه في كل مكان... خرج من مخبأه بعد ساعات... لم تكن بالبيت... فقط والده جالسا على الأريكة متعبا... نظر إليه بأسى "لماذا دفعتها؟" هز ذلك الطفل رأسه نافيا ... "لا تكذب! لقد قتلت أخاك! هل انت سعيد الآن؟" صرخ في وجهه و تركه وحيدا يرجف من الخوف... هل أصبح قاتلا؟ عن أي أخ يتحدث؟ ليس لديه أخ، بل شقيقة واحدة وقد تخلت عنه وهربت! لم يكن يفهم أنها أجهضت جنينا... أنها إتهمته زورا بأنه هو من دفعها من على الدرج... بقي في مكانه طيلة الليل... إلى أن أتى الصبح أخيرا... لكنه كان صباحا سيغير كل حياته... وجد حقائبه جاهزة ووالده لا يريد النظر في وجهه... لم يفهم شيئا... لكنه عرف أنهم سيأخذونه... رافقهم بإستسلام... كان بالتاسعة من عمره... يعرف أنه عبء على والده، وعليها... إستقل السيارة معهم وهو يودع ذلك البيت بعينان حزينتان... نجحت بإبعاد شقيقته والآن هو... نزل بالمكان... مدرسة داخلية ذات تكوين عسكري! فقط حفاظا على سمعته إختار لإبنه ذلك المكان... لم يكن يريده بمركز إصلاح أو بدار رعاية. كيف لا وهو رجل ثري والكل يعرفه؟ نزل من السيارة وهو يتأمل مكانه الجديد... يده الصغيرة كانت بجيبه لطمأنته... لم يكن بها شيء غير تلك القلادة المكسورة... بقيت بقبضته لغاية وصوله، خبأها جيدا ككنزه الوحيد... لم يكن الأمر هينا... كان طفلا حزينا و منطويا على ذاته... تعرض للتنمر مرات عديدة بسبب إنزواءه... و أحيانا للضرب بدون سبب... ربما لأنه كان مختلفا عنهم... ربما لأنه يخشى الصداقات فآثر الوحدة على مخالطتهم... كانت نظرات الألم والغضب واضحة عليه... تلك النظرات التي كبرت معه ثم نجح بدفنها عميقا... ربما يراه البعض غامضا أو باردا، لكن لا أحد ينجح الآن بإدراك عمق تلك العيون المنهكة من الحياة...
اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.
لمدة ست سنوات كان الولد الوحيد الذي لا يزوره أحد، بإستثناء شقيقته التي داومت إثر ذلك على لقياه بعد بلوغها سن الرشد... طيلة فترة تعليمه كانت المكتبة ملجأه الوحيد... لعب التركيب كانت الوحيدة المتاحة لمن يفضل أن يكون منعزلا... تعلم الإبتعاد عنهم، عن عالمهم وعن كل شيء... رفع رأسه إلى لارا التي بقيت تراقبه بغرابة... "هل تعرفين أسوء الناس؟" رفعت حاجبها تنتظر بقية كلامه... "أن تكون السند الوحيد لأحدهم ثم تتخلى عنه... تتركه ليواجه العالم وحده" أجابها بمرارة... لم تفهم شيئا... حاولت إستدراجه للحديث لكنه إكتفى بإجابتها "أقصد الأطفال فاقدي السند، فليس كلهم أيتاما بالضرورة" ترك اللعبة من يده و غادر المكتب... لم تفهم كلامه رغم أنه من الواضح يقصد أحدهم... هزت كتفيها ولحقته... لكنه كان قد خرج رغم الأمطار... ماذا تخفي عني يا ريان؟ لماذا لا تتكلم؟ لماذا لا تفتح لي قلبك؟ بقيت تتساءل وهي تشاهد سيارته تبتعد... لا تعرف أنه هرب محاولا إخفاء دموعه... دموع الطفل الذي تخلى عنه الجميع في وقت ما... دموع لم يسمح لأحد برؤيتها لحد الآن...