_ متاهة _
_ 39 _افترقت جفونها فجأة فلم تبصر الا ظلامًا يحيط بها ، جسدها يرتجف وقلبها يخفق بعنفوان وكأنه بسباقٍ للسرعة، كل شئ مظلم وبارد وكأنها في بُعد أخر ...
اجبرت قدماها علي التحرك أخيرًا حين أبصرت بصيص من نور يأتي من بعيد لا تدري مصدره لكنه يظل المنار الوحيد لعتمتها، سارت نحوه ببطء وهي تكتف ذراعيها من شدة البرودة التي تستشعرها ... سارت بضع خطوات حتي وصلت الي ذلك الضوء اخيرًا الذي اتضح انه باب قديم مألوف، عقدت جبينها وهي تمعن النظر قليلًا حتي انبسطت تعابيرها بدهشة حين ادركت انه باب غرفتها القديمة !.
مدت اناملها تمسك المقبض برعشة مترددة حتي حسمت أمرها وجذبت المقبض لينفتح الباب فتظهر اضاءة قوية جعلتها ترفع كفها الاخر امام وجهها وهي ترمش عدة مرات حتي تعتاد علي الاضاءة ثم ازاحتها بتمهل .. وكل شئ يتضح شئ فشئ .. انها بالفعل غرفتها القديمة وخزانتها الوردية، وهناك صندوق العابها القديم .. تحركت حدقتاها لتنظر الي فراشها في صدمة .. فعليه وجدت والدتها تجلس بكل سكينة وترتب ثيابها ..
تجمعت الدموع بعيناها سريعًا حتي ارتجفت جفونها بإشارة انها لم تعد قادرة علي كبح دموعها التي انهمرت بالفعل ترسم طريقها علي وجنتيها كما في الواقع هامسة بصوتٍ ضعيف مبحوح :
- مـ.. ماما !
وكأنها لم تسمعها ولم تنتبه لوجودها من الأساس وهي تتابع ترتيب الملابس بهدوء اوجع الأخيرة التي تحركت نحوها لتقف قبالتها قائلة بشفاه مرتجفة كطفلة صغيرة وجدت والدتها بعد ان تاهت عنها :
- انتِ ... انتِ هنا بجد ؟
جلست علي ركبتيها امامها، تمسح دموعها بظهر كفها متمتمة بابتسامة مرتعشة غير مصدقة :
- انا ليليان .. بنتك !
لكنها لم تعيرها اي اهتمام وكأنها غير مرئية مما زاد تدفق دموعها وهي تتمسك بكفها برعشة لم تتمكن من السيطرة عليها وهي تهمس بخفوتٍ متوسل :
- ماما ... ردي عليا ارجوكِ ... انا محتاجة اسمع صوتك !
ولم تلقِ الا الصمت ... هي لا تشعر حتي بوجودها، اغمضت عيناها بألم لثواني قبل ان يصل الي اسماعها صوته الذي تحفظه عن ظهر قلب :
- ماما انا رايح اوصل ليليان المدرسة عايزة حاجة ؟
فتحت عيناها تتطلع اليه بدهشة ... نهضت من جلستها لتسير نحوه وهو يقف مركزًا بصره مع والدته وكانه لا يراها كذلك، وقفت قبالته تتأمل وجهه الضاحك الذي افتقدته للغاية .. تلك الزرقة الصافية التي لا تحمل همًا تعكس ما يدور بداخله .. ابتسمت بضعف متطلعة اليه بنظراتٍ عاتبة تسأله لما تغيرت ؟
لما تحول ذلك النقاء الي ظلمة لا نهاية لها ؟
متي اختفت تلك الابتسامة الضاحكة التي تستدعي من حولك للابتسام رغمًا عنهم ؟
- عُمر؟
رفعت كفها بتردد لتلامس وجهه دون شعور ... لكنه رأها أخيرًا حين التف رأسه لينظر فجأة بعينيها باستغراب لم يكد يصدمها حتي تلاشي فجأة كالغبار! كما تلاشي كل شئ حولها في لحظات وهي تتلفت حول نفسها بجنون فتجد ان الظلام قد عاد ولم يبق شئ !
كان يسير بجانب فراشها ذهابًا وايابًا بقلق ينهش دواخله وهو يلقي نظرة عليها من حين لآخر .. لن يستطيع التنفس حتي يطمئن انها بخير .. رباه لقد ارعبته بحق ولا يدري ما الذي دفعها لتلك الحالة .. يقسم ان كان أحد الخدم تسبب بهذا لن يرحمه ولن يجعله يهنأ بحياته مجددًا .. انتشله من خضم أفكاره الاجرامية أنين ضعيف جعله يهرع نحوها قائلا بلهفة :
- ليلو ...
باللحظة التي فتحت عيناها فيها لم ينتظر ولم يسأل فقط سحبها ليضمها اليه بقوة وهو يلتقط انفاسه التي أقسمت الا تفارقها هامسًا بحنو وهو يربت علي خصلاتها بحركة رتيبة :
- متخافيش .. انا هنا .. انا معاكِ ..
لم تستوعب هجومه العاطفي الذي ضغط علي اوتار قلبها الجريح مستدعيًا كل دموعها ورغمًا عنها وعن كل قرار اتخذته بالهروب تشبثت بثيابه واجهشت فجأة ببكاء أليم أوجعه ... تناست كل شئ واختبأت بين ذراعيه تفتش عن أمان فقدته !
لقد ظنت ان الفرار سهل .. انها ستركض بأقصي قوتها ويحُل كل شئ .. لكنه أصعب ما يكون، خاصة حين تود الفرار من روحك .. نصفك الأخر الذي امتدت جذور عشقه لأعماقك ..
تركها تفرغ كل بكاءها في صدره حتي خفت بكاءها وهدأت انفاسها قليلًا لذا أبعدها برفق واحضر كوب ماء من جواره ووضعه بين كفيها لكن مازال ممسكًا به ..
- أحسن دلوقتي ؟
رفعت بصرها ببطء لتصطدم بعيناه التي تتابعها باهتمام وقلق حقيقي لم يتغير منذ عرفته .. رمقته بنظرات عاتبة متألمة، خائبة للأمل .. ودت لو تفصح له عن كل ما بقلبها لعله يطمئنها بأن كل ما عرفته وهم لم يحدث .. عمر خاصتها ليس قاتل قاسي لا يعرف الرحمة .. انه أحن شخصٍ عرفته...
كيف يقتل بنفس اليد التي تحتويها بداخله ؟
للحظة ارتجفت من مجرد الفكرة ودون شعور تراجعت للخلف هامسة بصوتٍ يكاد يُسمع :
- انا كويسة ..
علق كفيه بالهواء لثواني حين ابتعدت برهبة ظنها محض خيال ابتدعه عقله من شدة خوفه عليها لذا قبض كفه مكتفًا ذراعيه قائلًا :
- طب .. ممكن اعرف ايه الي وصلك للحالة دي ؟
ابتلعت ريقها تتمتم وهي تتحاشي النظر بعينه مجددًا تشعر وكأنه يخترقها بنظراته المتفحصة وكأنه سيعلم كل شئ اكتشفته فقط من مجرد نظرة :
- انت اتأخرت .. وانا فكرت اخرج اشم هوا .. الخادمة رفضت ومنعتني اخرج .. فانا اتضايقت واصريت بس هما فضلوا رافضين وقافلين الباب كمان ... كأني مسجونة او طفلة ممنوع تخرج ...
اعادت جملتها الأخيرة بنبرة مختنقة :
- هو انا مسجونة يا عمر ؟
مد يديه يمسك كفيها الذي لاحظ ارتعاشهم لكنها سارعت بإبعادهم بخوف اغضبه وهو يتساءل في نفسه ماذا فعل ليستحق كل هذا الخوف؟ ، لكنه تمالك نفسه مقدرًا حالتها الراهنة لذا تنهد بعمق قبل ان يوضح بنبرة هادئة :
- لا يا ليليان مش مسجونة ... انتِ صاحبة البيت وكلامك يمشي علي كل الي شغالين هنا .. انا بس اديت الاوامر دي علشان احنا يا حبيبتي في بلد غريب عنك وخطر تمشي فيه لوحدك وانا متوقعتش ان الموضوع يضايقك بالشكل ده ... انا أسف .. وهنبه علي الخدم محدش يمنعك لو حبيتي تخرجي طالما قولتيلي قبلها ..
هتفت بتردد :
- يعني لو حبيت اخرج لوحدي في اي وقت ينفع ؟
نظر لها بتفكير لثواني يحاول عبور سبل اغوارها .. يشعر بأن هناك شئ تخفيه لا يدري ما هو .. لما تصر فجأة علي الخروج فمنذ زواجهم لم تخرج من المنزل بدونه ولم تتذمر بشأن ذلك لكنه تغاضي عن الامر قائلا بغموض لم تلاحظه :
- اه طبعًا تقدري تخرجي وقت ما تحبي .. زي ما قولتلك يا ليليان انتِ مش مسجونة .. انتِ مراتي الي بحبها وبخاف عليها..
اومأت بهزة من رأسها ثم قالت بتعب من كل شئ يحدث ولا تستوعبه :
- تمام .. انا عايزة انام !
رفع حاجبه بدهشة من قولها وتصرفها ... في وضع اخر كانت لتظل متمسكة بأحضانه ترفض تركه الا حين النوم .. لكن الان وبكل بساطة تبتعد وتخشي وتطلب منه متوارية .. الرحيل .. لكنه صمت وتغاضي فقط لأجل حالتها لكن سيكون له معها نقاش طويل حين تكون بكامل عافيتها ... لذا سحب نفسًا عميقًا ونهض من جوارها دون ان ينطق بحرف وتحرك ليحضر غطاءً ثقيلا قبل ان يدثرها به .. ثم مال ناحيتها مما زاد جنون خافقها.. تشعر انه سيؤذيها بطريقة ما .. تراه شخص غريب الان ولم تعد تحتمل قربه .. كل شئ حوله اصبح يخيفها !
نظر بعمق عيناها المرتعبة بنظرات غامضة .. مظلمة، تناقض لون عيناه وكأنه يخبرها انه يعلم انها تخفي عنه شيئًا ثم اقترب مقبلا جبينها ليستشعر رجفتها التي تحاول اخفاءها، تراجع بهدوء قائلا بابتسامة جامدة قبل ان يطفأ الضوء :
- تصبحي علي خير يا ليلو ..
وغادر ببساطة ... تاركًا اياها تواجه ظلامها بمفردها .. ضمت جسدها وهي تلتحف بالغطاء جيدًا لعله يوقف تلك الرجفة التي لا تتوقف، تجددت دموعها وتفجرت مرة اخري لكنها كتمت صوتها حتي لا يصل اليه، تبكي بنشيج مؤلم .. وهي بهذا الوضع وحدها ولا تدري ماذا تفعل ولمن تلجأ ؟ والاجابة لا أحد .. انتِ بمفردكِ الأن ليليان .. وحيدة بلا عائلة ولا أصدقاء .. لا أحد ...
تعيش الان مع قاتل يجني رزقه من سفك الدماء !
ما الحل الأن اهو الهروب ام المواجهة ؟!
لكن ما الفارق فكلاهما يؤدي الي نفس النتيجة .. انها هالكة لا محالة !..
___________________
أخذت توضب اغراضها وترتب ثبابها في تلك الحقيبة وهي تتطلع اليه وهو جالس علي طرف الفراش بصمت يضع وجهه بين كفيه كم يحمل هموم الدنيا فوق كتفيه، تشجعت لتقترب قليلاً وتجلس جواره وبتردد مدت أناملها تضعها علي كتفه ليرفع رأسه بانتباه لوجودها
أنت تقرأ
أسميتُها ليليان ( متوقفة )
Randomمقدمة ... _____ رِفْقَاً بِقَلبىّ النَابضُ بعِشقُكِ... رِفْقَاً بِعَاشّقٍ إرتَدىَ ثَوبٌ الأُبوةً ليَنعَمّ بدفٌئ ابتسَامتُكِ... رِفْقَاً بَمنٌ إرتَدىْ ثَوبٌ الأُخوةٍ مُستَنشِقٍ عبير ضمّتُكِ الحَنونٍ... رِفْقَاً بَمنٌ في هَواكِ مُتَيَمٌ ، مُتلفظٌاً بِ...