رزقت الحلال {الحلقة 11}

5.7K 229 4
                                    

رصت طعام العشاء تتشاركه مع جدتها لكن عقلها مازال شارداً في تلك الطفلة التي جار عليها الزمان، تتجرع كؤوس الوجع قبل أن تتعلم طريقة إمساكه بكفوفها الدقيقة.

لاحظت الجدة شرودها ولكنها لم تحاول الاستفسار منها عن السبب، إذا أردت ستأتي لتروي لها دون ضغط.

كانت خيالاتها تأخذها إلى أي مدى ستعاملها زوجة والدها بقسوه، لِمَ توقف القوي عن رحمة الضعيف والكبير عن العطف على الصغير؟، صار الظلم منطق الحياة والقهر سر لذتها.

لقد قرأت ذات مرة أن الظالم يظلم لأنه يحس بالمتعة في ظلمه كهتلر الذي كان عاشقاً للسيطرة والتحكم.

عندما توقف الناس عن استشعار مراقبة الله في كل عمل يقومون به، انتشرت جميع الصفات التي جعلت مجتمعنا في طريقه أن يصبح شبيهاً بديستوبيا .. هذا إذ لم يكن قد صار بالفعل.

خطر على عقلها فجأة .. ماذا إذا كانت ابنتها تشعر بنفس تلك المعاناة، تحيا الآن بين أشخاص فاسدون، تتجرع الظلم وتتذوق مرارة الألم.

لحسن الحظ أنهم انتهوا من العشاء، هربت لغرفتها تعبث بأحد الأدراج تخرج منه ثوباً زهري اللون، ضمته بشوق ولوعه إلى صدرها، تتلمس رائحة صغيرتها بين أنسجته، انكبت دموعها تغرقه وقلبها يتضرع إلى ربها .. "فلتحفظ طفلتي أينما كانت، أرزقها من يحبها ويحميها، يحنو عليها ويسقيها العاطفة التي لم أستطع أن أمنحها إياها".

لماذا يا الله تحرمني من طفلتي بينما الآخرين ينعمون بدفئ ضمتهم، لقد تزوج خليل بأخرى لما هي تقبل خد صغيرتها كلما شاءت وأنا حُرمت من بهجة رؤيتها ؟؟

استفاقت إلى حالها، استغفرت ربها راكضة مسرعة إلى حمامها تتوضأ والاستغفار لا يترك لسانها، سجدت إلى ربها باكية متأسفة، تتوسل إلى ربها أن يسامحها، لقد أضعفها شيطانها ولكنها قفزت عائدة لرشدها.

بدأت تدعو متضرعة: أسفة يا ربي ... سامحني وأغفر ذلتي، لا أعترض على مشيئتك فأنت أرحم الراحمين، أرؤف بقلب أم مكلومة حزينة لفراق طفلتها، فتك الشوق بقلبها الضعيف.

أنتهت راقدة على سجادة صلاتها وثوب صغيرتها يستكين بين أحضانها كأن الملابس تعبر عن شوق صاحبتها في الحصول على هذا الحضن الدافئ.

***

التوتر يملئ جو الحجرة كذلك الصمت هو السائد، استمر شادي في الذهاب والمجئ ثم توقف فجأة قائلاً: أنا هأدخل أشوفها

اندفعت نيفين ناهضة: لا خليك أنت .. أنا هاروح

جميلة: ما تخليه هو يروح يشوف البرنسيسة

وضحت نيفين: هو لو راح هترجع تتعصب ومش هنقدر نهديها .. علينا من دا بإيه ؟

أيدتها فتون وسمح لها شادي بالدخول إليها.

طرقت الباب عدة طرقات بهدوء لكن ليس هنالك من رد، دفعت الباب متمهلة، نظرت حولها ولم تجد حياه بالغرفة، اشعلت النور لتتأكد فزعة وأعدت تمر ببصرها في أنحاء الغرفة.

وجدتها متكومة في ركن بعيد تضم ركبتيها إلى صدرها، الدموع تنهمر بلا توقف وجسدها يهتز ويرتعش .. اقتربت منها ولكن أبقت على مسافة ضيقة بينهما سألتها: عامله إيه دلوقت ؟

لم تجبها حاولت تتبع اتجاه نظراتها لتجدها تنظر لنقطة ما على الجدار المقابل، نقطة واهية .. لمست كتفها وكان ذلك كأنها اضرمت فيها اللهيب، بدأت تصرخ وتزيد انكماشها.

ابتسمت نيفين قائلة: ما تخافيش، دا أنا ... أنا نيفين

هدأت قليلاً ولكنها حافظت على صمتها، تنهدت نيفين واستندت ظهرها إلى الحائط بجوارها جالسة وبدأت تتحدث: ما تفتكريش أنك لوحدك اللي حصلك كدا، كلنا مرينا بنفس لحظتك دي

أضافت ضاحكة: إلا جميلة طبعاً، كله كان بمزاجها

إلتفتت إليها حياه بانتباه لكن ما تزال تحافظ على صمتها، تشجعت نيفين لمتابعة الحديث لعله يخفف عنها ولو القليل، شردت في نقطة أخرى على نفس الجدار الذي شردت فيه حياه.

- هابدأ بحكايتي أنا، أصل الواحد مش بيعرف يحكي صح إلا الحكايات اللي تخصه، أنا كنت عايشه لوحدي أبويا وأمي ماتوا وأنا عندي خمس سنين وخالي هو اللي خدني قال إيه عشان يراعيني، ما كانش عندي أعمام لإنه أبويا وحيد وأصلاً كل أهله ماتوا ... مقطوع من شجرة يعني، المهم خالي أصلاً ماكانش تمام، كنت بأشك فيه ساعات كتير، شغله مش معروف له قرار ... يوم يغيب وعشرة قاعد ف البيت، عدت السنين وأنا يادوب أخدت الثانوية وقعدني في البيت .. قالي كفايه عليكي علام لحد كدا يعني اللي اتعلموا كانوا خدوا إيه، طبعاً ما قدرتش أقوله لا ... دا هو اللي بيصرف عليا وكفايه حملي كل دا عليه ... ما كنتش أعرف أنه بيفكر ف حاجه تانيه ... إنه يجوزني لحد عشان يرتاح من مصروفي ويلاقي حد يديه كل فترة قرشين، والله ما كنت بأكل أيام عشان ما أحسسوش إني حمل تقيل لكن نقول إيه! ... فعلاً كان هيجوزني لواحد متجوز تلاته وأنا الرابعة .. عنده منهم تلاتاشر عيل وعمره فوق الستين، كتمت ف قلبي وعيطت على أحلام طفولتي ودعت الفارس وحصانه الأبيض ... بس ف أخر لحظة جت مراته التالته وقلبت الجوازه، وقتها حسيت إنه أخيراً خلصت ... بس خالي هو اللي ما هديش، حاول يجوزني كذا مرة بعد كدا لكن للحظ السئ أو الكويس ما بقتش فارقه ... ما نفعش، اللي ما أجيش على هواه واللي تحصل حاجه معاه فيلغي الجوازه كدا يعني ... خالي بقى يشرب حشيش والذي منه .. اتقلب حاله والقرشين اللي كان بيجبهم بقوا يطيروا ع الكيف، أخرت ما زهق مني جه وسلمني لشادي، قاله أهي عندك أعمل فيها اللي يريحك

ضحكت بوجع: وأهو عمل فيا اللي يريحه ... قال إيه يقولك الخال والد .. قطيعه

سألتها: يعني أنتوا مش أخواته زي ما قولتولي ؟

نظرت لها نيفين بجدية: وإنتي لسه ما فهمتيش؟ .. لا إحنا مش أخواته، هو إحنا لو كنا إخواته كان عمل فينا زي ما عملك فيكي من شوية ؟

سالت الدموع على وجنتيها متسائلة بألم: طب وهو ليه بيعمل كدا ؟

-عشان ينفع يشغلك

رفعت رأسها بحيرة: يشغلني إيه ؟

تحسرت على براءتها لكنها أجابتها لتفهم حقيقة الحياة التي ستعيشها الآن: بنت ليل يا حياه ...


رزقت الحلال حيث تعيش القصص. اكتشف الآن