جاء في التاريخ أن أحد علماء العامة ويدعى (شريكاً) كان معاصراً للخلفاء العباسيّين وكان من أشدّ الأعداء لهم بحيث لم يكفّ عن معارضتهم أبداً، وكان الخليفة المعاصر يخشى من تأديبه لمكانته بين الناس، فتحيّر الخليفة في أمره، وأخيراً فكّر في احتوائه وإغرائه عبر المقام والجاه.
فطلبه ذات مرّة، فأبى أن يلبّي طلبه، وبعد إصرار من الوسائط وافق علىٰ الحضور، فحضر مجلس الخليفة، فرحّب به الخليفة وأكرمه وقال له فيما قال: إنّك تعلم أن القضاء هو الأساس المقوم للناس والسبب لإيصال كلّ ذي حقّ إلىٰ حقّه، ومن المعلوم: أن القضاة غير الأكفاء يفسدون أكثر ممّا يصلحون، ولذلك فإنّي رأيت إنقاذ الأمّة بعرض منصب قاضي القضاة عليك.
فأبى (شريك) قبول ذلك وقال: كلّا فإنّي لا أفسد بإصلاح غيري.
قال الخليفة بعد أن فكّر مليّاً: إذن فهذان ابناي أدّبهما فإنّ الأمر يؤول إليهما، ولو أدّبتهما كانت الأُمّة بمنجى من غوائل الخلفاء.
قال شريك: إن الأمر كما تقول ولكنّي غير مستعدّ لذلك.
وكلما حاول الخليفة إقناعه أن يوافق علىٰ أحد الأمرين لم يزدد (شريك) إلا إصراراً في الرفض.
عندها قال الخليفة: إذا كنت لم تقبل شيئاً من ذلك، فكن إذن في منصب مشاور الخليفة، وأنت خبير بدور المستشار وأثره في تقويم الخلافة وتطبيق العدالة في المجتمع.
فأبى (شريك) من قبول هذا المنصب الثالث أيضاً.
وأخيراً قال له الخليفة: إذن فكن ضيفنا هذا اليوم وابقَ عندنا لتناول طعام الغداء، فقبل (شريك) ذلك بعد إصرار كبير، وأمر الخليفة بإقامة الضيافة علىٰ شرفه، كما وأمر خادمه بأن يقدم له من طعامه الخاص به، ففعل الخادم ذلك، ولما ذاق شريك من الطعام استساغه، فما رفع يده عنه حتّى أكله بالتمام وأتى عليه كاملاً، ولما جاء الخادم ولم ير من طعام الخليفة أثراً سأل بعض الحاضرين عمّا فعل (شريك) بالطعام؟
فقيل له: أكله تماماً.
قال الخادم لما سمع ذلك: إذن لن يفلح والله بعد أكله هذا أبداً.
وكان كما ذكر، فإنّ (شريكاً) لم يقم من مجلسه هذا حتّى قال للخليفة: لقد فكّرت فيما قلت فرأيت كلامك حقّاً، وقد قبلت تعليم الأولاد، ومنصب قاضي القضاة وأن أكون مستشاراً لك.
ففرح الخليفة فرحاً عظيماً من موافقة (شريك) علىٰ ما عرضه عليه، وأمر بإسناد المناصب الثلاثة إليه فوراً، وبعد ذلك انتهت معارضته إطلاقاً، وصار موافقاً ومدافعاً.
وفي الأيام الأولى كان مرتبه الشهري يقدم إليه علىٰ باب داره، ثمّ كان يذهب هو بنفسه لاستسلامه، لكن كان يراعى ويقدّم له مرتبه بسرعة واحترام، وبعد فترة جاء شريك ذات مرّة ليأخذ مرتبه، فلم يسرع المأمور بدفع الراتب إليه.
فغضب (شريك) من التأخير وصرخ في وجه المأمور ليعجّل له بمرتبه قائلاً: هات حقّي.
فقال له المأمور بامتعاض: وهل بعتنا شيئاً تريد منّا قبض ثمنه؟
قال (شريك) ببرودة: نعم بعتكم أغلى شيء أملكه وهو ديني.
وهكذا تباع الضمائر والأديان علىٰ موائد الخلفاء والحكّام، وهكذا أيضاً تفعل المغريات بالنفوس الضعيفة.