لأتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) تاريخ مشرق، فقد ثبت علىٰ طول التاريخ أنهم متى ما حكموا عدلوا، ومتى ما قدروا عفوا، ومتى ما ملكوا سجحوا، بينما التاريخ قد أثبت معاملة العكس للآخرين.
فهذا أحد ملوك الأفغان ويدعى محمود شاه أفغاني، من حقده علىٰ الشيعة وشدّة عدائه لهم قد جَنّد قبل قرن تقريباً جيشاً جرّاراً باتّجاه إيران وخلّف الدماء والدمار في أرجائها. ومن أقبح جرائمه أنه أمر جنوده بانتهاك الحرمات واقتحام البيوت وإرعاب الآمنين، كما وأمرهم أن يأتوا إليه بكل بنت جميلة يجدونها في البيوت.
وذات مرّة وجد جلاوزته بنتاً جميلة من العلويّات فهمّوا بأخذها ولكن البنت أبت وامتنعت عليهم، فلما يئست من مقاومتها لهم استعطفتهم بطريق البكاء والتوسّل، فأجهشت هي وأبوها العجوز بالبكاء والنحيب، وتوسّلا بالجلاوزة بأن يخلّوا سبيلها، لكن دون جدوى، لأن الجلاوزة لا يفكّرون إلا في إرضاء الطاغية والنزول عند رغباته الدنيئة، ونزواته الوضيعة، مهما كلّفهم الأمر وأعقبه من ويلات ودمار، وبذلك يجعلون من أنفسهم جسراً لوصول الطاغية إلىٰ مآربه وشهواته، ولم يجلبوا لأنفسهم سوى اللعنة والعار، والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، بعد أن يسجلوا أنفسهم مع من باع آخرته بدنيا غيره، ولذلك علىٰ أتباع السلطان وكل من يعيش علىٰ مائدته أن يقدّروا أنفسهم ولا ينزلوا بها إلىٰ حضيض الذلّ والعار، وهوان جهنّم ودركاتها.
وكيف كان، فإن أولئك الجلاوزة لم يعبؤوا ببكاء البنت ولم يحنوا علىٰ ضعف أبيها العجوز، بل أخذوا يسحبونها ويقولون: نحن مأمورون، والمأمور معذور، وهذا أيضاً من تحريفات الطواغيت ومن تسويلات النفس والشيطان، فإن المأمور في هكذا أمور ليس كما هو المعروف علىٰ الألسنة بأنه (معذور)، بل هو كما في الحديث الشريف: (مأزور) يعني عليه الوزر والعقاب من الله تبارك وتعالىٰ.
نعم جرّ الجلاوزة الفتاة العلويّة أمام عيني أبيها واقتادوها إلىٰ الطاغية، فلم يملك الأب العجوز ما يدفع به عن نفسه وما يستنقذ به ابنته منهم، إلا أن رفع يديه إلىٰ السماء وقال: اللهم إنك تعلم حالنا وما نزل بنا، فخلّصني وابنتي من هؤلاء الظالمين، ومن العار والشنار، ثم أرخى عينيه بالبكاء.
ولم ينفك يبكي ويدعو ولم تطل المدّة علىٰ هذا الأب الوالد حتى استجاب الله تعالىٰ دعاءه، وفرّج عنه وعن ابنته، فبينما هو كذلك إذ دخلت عليه ابنته العلويّة وهي فرحة مستبشرة.
فقام إليها أبوها العجوز وعيناه تجريان دمعاً من الفرح والسرور، فاعتنقها وهو يبكي ويقول: أأنتِ ابنتي؟!
فتجيبه: نعم، يا أبه أنا ابنتك، وقد فرّج الله عنّي استجابة لدعائك لي.
فقال: وهل لك أن تقصّي عليّ قصّتك؟
قالت: نعم يا أبه، لما أخذني الجلاوزة إلىٰ السلطان الطاغية، ولم أكن وحدي، بل كانت هناك فتيات كثيرات أُخذن إلىٰ الطاغية قهراً، فأمر الطاغية أن يجعلونا في إحدى غرف قصره ويهيّئونا له، ونحن نبكي ونتوسّل إلىٰ الله في خلاصنا منه، وإذا بالطاغية يصاب بألم شديد في بطنه يسلبه قراره ويفقده لبّه ونظامه، فعمّ القصر اضطراب شديد، وعلا كل من في القصر قلق وخوف أدّى بالطاغية أن يأمر بإطلاق سراح كل الفتيات والإفراج عنهنّ. فخرجنا فرحين وأتينا بيوتنا سالمين والحمد لله.
وهكذا ظهرت آثار دعوة هذا الأب العجوز، التي كانت عن توجّه خاص وانقطاع صادق إلىٰ الله تعالىٰ، واضحة جليّة.
وفي رواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالىٰ أخفى أربعة في أربعة: أخفى رضاه في طاعته فلا تستصغرنّ شيئاً من طاعته، فربما وافق رضاه وأنت لا تعلم، وأخفى سخطه في معصيته فلا تستصغرنّ شيئاً من معصيته، فربما وافق سخطه في معصيته وأنت لا تعلم، وأخفى إجابته في دعوته فلا تستصغرنّ شيئاً من دعائه، فربما وافق إجابته وأنت لا تعلم، وأخفى وليّه في عباده فلا تستصغرنّ عبداً من عبيد الله، فربما يكون وليّه وأنت لا تعلم).
وهذه الرواية وأمثالها تفرض علىٰ الإنسان العاقل ناهيك عن المؤمن بأن يلتزم بهذه الأمور الأربعة: من المواظبة علىٰ الدعاء والتوسّل الدائم بالله وبرسوله وأهل بيته الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين)، واجتناب كل ذنب ومعصية، واحتساب كلّ حسنة وطاعة، واحترام الآخرين وتوقيرهم وإن كانوا أقلّ منه شأناً ومقاماً.