أجمعت الأمة علىٰ بيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد مقتل عثمان بيعة ثانية بعدما كانوا قد بايعوه قبل خمسة وعشرين عاماً في غدير خم بأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله في منصرفه من حجة الوداع (34).
وبايعه ثمانية من المنافقين فيمن بايعوه. ثم خلعوا بيعته بين أنفسهم وبايعوا ضباً في الصحراء.
اقرأ القطعة التاريخية التالية:
أخرج العلامة المجلسي (رضي الله عنه) في (البحار) عن ابن شهرآشوب في (المناقب) والقطب الراوندي في (الخرايج)، والشيخ الصدوق في (الخصال)، والصفّار في (بصائر الدرجات)، وغيرهم بأسانيدهم عن الأصبغ بن نباتة قال:
أمرنا أمير المؤمنين (عليه السلام) بالمسير إلىٰ المدائن من الكوفة فسرنا يوم الأحد، وتخلّف عمرو بن حريث في سبعة نفر، فخرجوا إلىٰ مكان بالحيرة يسمى الخورنق، فقال: نتنزه فإذا كان يوم الأربعاء خرجنا فلحقنا عليّاً قبل أن يجمع (أي: قبل أن يصلي صلاة الجمعة).
فبينما هم يتغدون إذ خرج عليهم ضبّ فصادوه.
فأخذه عمرو بن حريث فنصب كفه (أي: كف الضب) وقال:
بايعوا، هذا أمير المؤمنين.
فبايعه السبعة وعمرو ثامنهم. ثم أفلتوه وارتحلوا.
وقال: إن علي بن أبي طالب يزعم أنه يعلم الغيب، فقد خلعناه وبايعنا مكانه ضباً.
فقدموا المدائن يوم الجمعة وأمير المؤمنين (عليه السلام) يخطب.
ولم يفارق بعضهم بعضاً، فكانوا جميعاً حتى نزلوا علىٰ باب المسجد، فلما دخلوا نظر إليهم أمير المؤمنين (عليه السلام) من فوق المنبر وقد قطع حديثه، فقال:
«يا أيها الناس إن رسول الله صلّى الله عليه وآله أسر إليّ ألف حديث لكل حديث ألف باب، لكل باب ألف مفتاح.
وإني سمعت الله جل جلاله يقول: ﴿يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسِ بِإِمَٰمِهِمْ﴾ (35).
وإني أقسم لكم بالله، ليبعثن يوم القيامة ثمانية نفر يدعون بإمامهم وهو ضبّ. ولو شئت أن أسميهم لفعلت».
قال الأصبغ بن نباتة: فلقد رأيت عمرو بن حريث قد سقط كما تسقط السعفة حياءً ولؤماً، وجبناً وفرقاً (36).
كيف يأمن هؤلاء الثمانية أن ينكثوا بيعتهم لأمير المؤمنين (عليه السلام) الذي اعتبره القرآن الحكيم نفس رسول الله صلّى الله عليه وآله في آية المباهلة ؟ (37)
ثم يتمادون في غيهم فيبايعون ضباً إيغالاً منهم في إهانة أمير المؤمنين قسيم الجنة والنار. وموقف أمير المؤمنين (عليه السلام) منهم موقف العطف والرحمة، يعرفهم، ويخبر عنهم، ومع ذلك يحجم عن ذكر أسمائهم لكي لا يحطمهم الناس... ومع ذلك كله يظل الثمانية علىٰ نفاقهم وضلالهم.
مثل هذه الحرية لا توجد إلا في الإسلام. ولا يمثلها إلا حاكم إسلامي عادل مثل رسول الله صلّى الله عليه وآله وأمير المؤمنين (عليه السلام)، ومن كانت سيرته متابعة لسيرتهما.ـــــــــــــــــــــــــــــــ
34- حجة الوداع هي أول وآخر حجة حجها النبيّ (ص) بعد فتح مكة، وخطب فيها خطبة الوداع التي تضمنت قيماً دينية وأخلاقية عدة، وسميت حجة الوداع لأن النبي (ص) ودّع الناس فيها وعلمهم في خطبته فيها أمر دينهم، وأوصاهم بتبليغ الشرع فيها إلى من غاب عنها.
35- سورة الإسراء، الآية: 71.
36- الخصال، الشيخ الصدوق، ص 645.
37- ﴿فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ﴾ [سورة آل عمران، الآية: 54].