لما اجتمعت الأحزاب من العرب لحرب الخندق واستشار النبيّ صلّى الله عليه وآله المهاجرين والأنصار في ذلك فقال سلمان: إنَّ العجم إذا حزّ بها أمر مثل هذا اتخذوا الخنادق حول بلدانهم، وجعلوا القتال من وجه واحد، فأوحى الله إليه أنْ يفعل مثل ما قال سلمان.
فخطَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله الخندق حول المدينة، وقسَّمه بين المهاجرين والأنصار بالذراع، فجعل لكل عشرة منهم عشرة أذرع.
قال جابر: فظهرت يوماً من الخط لنا صخرة عظيمة لم يمكن كسرها، ولا كانت المعاول تعمل فيها، فأرسلني أصحابي إلىٰ رسول الله صلّى الله عليه وآله لأخبره بخبرها.
فصرت إليه فوجدته مستلقياً وقد شدَّ علىٰ بطنه الحجر، فأخبرته بخبر الصخرة، فقام مسرعاً فأخذ الماء في فمه فرشَّه علىٰ الصخرة، ثُمَّ ضرب المعول بيده وسط الصخرة ضربة برقت منها برقة، فنظر المسلمون فيها إلىٰ قصور اليمن وبلدانها، ثُمَّ ضربها ضربة أخرى فبرقت برقة أخرى نظر المسلمون فيها إلىٰ قصور العراق وفارس ومدنها، ثُمَّ ضربها الثالثة فانهارت الصخرة قطعاً.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: ما الذي رأيتم في كل برقة؟
قالوا: رأينا في الأولى كذا، وفي الثانية كذا، وفي الثالثة كذا. قال: سيفتح الله عليكم ما رأيتموه.
قال جابر: وكان في منزلي صاعٌ من شعير وشاةٌ مشدودةٌ فصرتُ إلىٰ أهلي فقلت: رأيتُ الحجَرَ علىٰ بطن رسول الله صلّى الله عليه وآله وأظنه جائعاً، فلو أصلحنا هذا الشعير وهذه الشاة ودعونا رسول الله صلّى الله عليه وآله إلينا لكان لنا قربة عند الله.
قالت: فاذهب فأعلمه، فإنْ أذن فعلناه. فذهبت فقلت له: يا رسول الله إنْ رأيت أنْ تجعل غداءك اليوم عندنا.
قال: وما عندك؟
قلت: صاع من الشعير وشاة.
قال: أفأصير إليك مع من أحبُّ أو أنا وحدي؟
قال: فكرهتُ أنْ أقول: أنت وحدك، فقلت: بل مع من تحبُّ، وظننتُهُ يريدُ عليّاً (عليه السلام) بذلك.
فرجعت إلىٰ أهلي فقلت: أصلحي أنت الشعير، وأنا أصلح الشاة، ففرغنا من ذلك وجعلنا الشاة كلها قطعاً في قدر واحد وماء وملحاً، وخبزت أهلي ذلك الدقيق، فصرت إليه وقلت: يا رسول الله قد أصلحنا ذلك.
فوقف علىٰ شفير الخندق ونادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أجيبوا دعوة جابر. فخرج جميع المهاجرين والأنصار، فخرج [النبيّ صلّى الله عليه وآله] والناس خلفه ولم يكن يمرُّ بملأ من أهل المدينة إلا قال: أجيبوا دعوة جابر. فأسرعت إلىٰ أهلي وقلت: قد أتانا ما لا قبل لنا به. وعرَّفتها خبر الجماعة.
فقالت: ألست قد عرَّفت رسول الله بما عندنا؟!
قلت: بلى.
قالت: فلا عليك هو أعلم بما يفعل.
فكانت أهلي أفقه مني، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله الناس بالجلوس خارج الدار ودخل هو وعلي الدار، فنظر في التنور والخبز فيه فتفل فيه وكشف القدر فنظر فيها، ثُمَّ قال للمرأة: اقلعي من التنور رغيفاً رغيفاً، وناوليني واحداً بعد واحد.
فجعلت تقلع رغيفاً وتناوله إياه، وهو وعليٌّ يثردان في الجفنة، ثُمَّ تعود المرأة إلىٰ التنور فتجد مكان الرغيف الذي قلعته رغيفاً آخر، فلما امتلأت الجفنة بالثريد غرف عليها من القدر وقال: أدخل عليَّ عشرة من الناس، فدخلوا وأكلوا حتَّى شبعوا [والثريد بحاله].
ثُمَّ قال: يا جابر ائتني بالذراع، ثُمَّ قال: أدخل عليَّ عشرة، فدخلوا وأكلوا حتَّى شبعوا، والثريد بحاله، ثُمَّ قال: هات الذراع، فأتيته به، فقال: أدخل عشرة فأكلوا وشبعوا، ثُمَّ قال: هات الذراع، قلت: كم للشاة من ذراع؟
قال: ذراعان.
قلت: قد أتيت بثلاث أذرع.
قال: لو سكتَّ لأكل الجميع من الذراع، فلم يزل يدخل عشرة ويخرج عشرة حتَّى أكل الناس جميعاً.
ثُمَّ قال: تعال حتَّى نأكل نحن وأنت، فأكلت أنا ومُحَمَّد صلّى الله عليه وآله وعلي (عليه السلام) وخرجنا، والخبز في التنور بحاله والقدر علىٰ حالها والثريد في الجفنة علىٰ حاله، فعشنا أياماً بذلك.