دخل ياغيز الى الحمام و وقف أمام المرآة ..طأطأ رأسه للحظات محاولا ألا ينظر الى وجهه لكنه رفع عيونه بعد وقت و نظر الى نفسه..قال يخاطب صورته التي انعكست في المرآة" ياغيز..ماذا حدث لك؟ اهدأ..انها مهمتك و يجب أن تقوم بها على أكمل وجه..تجاهل كل هذه الأصوات التي تضج داخل رأسك..تجاهل ضعفك و تجاوزه..و لا تنسى بأنه لا أحد يعرف حقيقة ما يجري لك..ستواصل القيام بمهمتك و ستتحمل مسؤولية عملك..هذا كل ما عليك فعله..لقد أسست لنفسك حياة جيدة ..لا تخاطر بافساد توازنها..ستفعل ما تبرع به و ما تجيده..و لا تهتم لتلك الفتاة المتمردة و العنيدة..ستتعبك قليلا لكن هذا غير مهم..المهم أن تحميها و ألا تسمح لأي مكروه بأن يصيبها..هذا واجبك تجاهها..و الباقي لا يهم..هيا..عد الى عملك و ارم كل شيء وراء ظهرك" أغمض ياغيز عينيه للحظات..تنفس بعمق ثم ابتسم و فتح عيونه ثم خرج..جلس بجانب مراد و سعيد الذان كانا يشربان الشاي..سكبت له الخادمة كأسا و وضعته أمامه..قال" شكرا لك" ثم التفت الى مراد و سأل" ما هو برنامج سيادة الوزير اليوم؟" اخذ مراد مفكرته الصغيرة من جيبه و أجاب بعد أن قلب صفحاتها مطولا" سيذهب بعد ساعة الى مجلس الوزراء..لديه اجتماع مهم لا أعلم كم سيدوم ثم سيشرف على وضع حجر أساس لنصب تذكاري للزعيم اتاتورك في ساحة التحرير..هذا ما سجلته هنا" ابتسم ياغيز بسخرية و قال" ألن تغير هذه العادة السيئة؟ أخبرتك سابقا بأنك يجب أن تحفظ برنامج سيادة الوزير عن ظهر قلب..لا أن تتصفح مفكرتك لكي تتذكر" انفجر مراد ضاحكا و رد" لا أستطيع ان احفظ..آسف" ربت ياغيز على كتفه و قال" لا عليك..المهم أن تنتبهوا جيدا..انا سأكون مضطرا للبقاء هنا مع الآنسة..سيكون سيادة الوزير تحت حمايتكما..اعتمد عليكما ايها الرجال" هز مراد برأسه و وقف و هو يقول" لقد خرج سيادة الوزير من غرفته..يجب أن نتحرك"
غادر الموكب الوزاري فيما بقي ياغيز جالسا ينتظر خروج هزان من غرفتها..مرت الساعات بطيئة و هو على نفس الحال..يسمع صوت الموسيقى الصاخبة تنطلق من غرفتها و لا تظهر هي..نظر ياغيز الى ساعته ..انها تشير الى الثانية بعد الظهر..ايعقل أن تكون نائمة الى هذه الساعة؟ ..بدأ القلق يستبد بياغيز فوقف و صعد الدرج ثم توقف أمام غرفتها..طرق الباب و هو يقول" هزان هانم..هل تحتاجين الى شيء؟ الست جائعة؟" لكن ما من مجيب..طرق مرة أخرى..دون جدوى..تأفف ياغيز بضيق ثم طرق من جديد..و عندما لم يحصل على جواب..ضرب الباب برجله ففتحه..و كما توقع بالضبط..لم تكن هزان هناك..وضع ياغيز سلاحه على خصره و خرج مسرعا الى سيارته..انطلق بها كالمجنون..يبدو بأن هذه الفتاة ستفقده صوابه منذ أول يوم لها في تركيا..حاول أن يسيطر على غضبه و أن يضع نفسه مكانها..فتاة بتلك العقلية و التصرفات المستهترة..الى اين يمكن ان تذهب في أول يوم لها في تركيا..ستستمتع قدر الامكان خاصة و هي بعيدة عن مراقبة ابيها و حرسه..اتصل ياغيز بمعارفه الذين يملكون نوادي و ملاهي تعمل في النهار كما في الليل..و استطاع معرفة مكانها..كانت هزان ترقص و كأس الويسكي في يدها..كانت ترتدي فستانا قصيرا بلون أسود قاتم ظهره عاري و كتفاه مكشوفان..كان المكان يعج بالشباب و الفتيات اللذين كانوا يستمتعون بوقتهم..و منهم أربع شباب احاطوا بهزان و راحوا يرقصون معها..لم تعبئ هي بهم و لا انزعجت منهم..بل واصلت رقصها و مرحها..فتح ياغيز باب الملهى و دخل بخطوات بطيئة..موسيقى صاخبة و دخان سجائر يطبق على الانفاس..تقدم نحو باحة الرقص فرأى هزان هناك..تنفس بعمق و هو ينظر الى الشباب الذين احاطوا بها..وضع احدهم يده على خصرها و جذبها نحوه و قبل أن تتحرك هي لابعاده كان طريح الأرض..حملقت هزان في ياغيز الذي كان يقف أمامها بعد ان لكم الشاب و اوقعه أرضا..حمل الشبان زميلهم و ابتعدوا به مسرعين اما ياغيز فالتفت الى هزان و سأل" هل ستغادرين يا آنسة؟ ام ستواصلين لهوك؟" ألقت هزان الكأس من يدها و هزت بكتفيها بلامبالاة و أجابت" لم يبقى هناك لهو و لا مرح مادمت وجدتني..هيا لنذهب من هنا" سبقها ياغيز و هو يضع يده حولها مانعا اي احد من ملامستها و ما ان وصلا الى الخارج حتى سألته بعصبية" هل لي أن أعرف كيف عرفت مكاني؟"..ابتسم ياغيز ببرود و رد" لم يكن ذلك صعبا في الحقيقة..ليس صعبا تخمين طريقة تفكيرك" رفعت هزان حاجبها استغرابا و قالت" غريب..مع أنك تعرفت علي اليوم..هل كان هذا كافيا لكي تعرفني و تفهم طريقة تفكيري؟" نظر ياغيز حوله و قال" لنتحدث في السيارة لو سمحت آنستي..المكان هنا غير آمن" انفجرت هزان ضاحكة بصوت عالي ثم قالت" لا تشعرني بأنني شخص مهم و قد اتعرض لمحاولة اغتيال منذ اليوم الأول لي في هذا المكان..أبي هو الوزير و لست أنا..توقف عن هذا لو سمحت" فتح ياغيز باب السيارة لها و هو يقول" أنا اقوم بواجبي فقط..اصعدي من فضلك" وقفت هزان في مكانها لوهلة ثم تحركت باتجاه السيارة و صعدت..قاد هو باتجاه القصر و هو يحاول ألا ينظر اليها عبر المرآة الصغيرة الموجودة أمامه..كانت هي تتأمله دون ان تقول شيئا..طال الصمت بينهما فقطعته هي بقولها" منذ متى تعمل مع أبي؟" اجاب دون ان ينظر اليها" منذ ستة أشهر" زمت هزان شفتيها و سألت" ستة أشهر كانت كافية لكي يثق بك أبي و يأتمنك علي؟ كيف ذلك؟ أعرف بأنه لا يثق بسهولة..مالمميز فيك لكي يجعلك ابي حارسي الخاص؟" رد بهدوء" لا أعلم..تستطيعين أن تسألي سيادة الوزير..تسعدني كثيرا ثقته بي و اتمنى ان اكون دائما عند حسن ظنه" مدت هزان ساقيها على الكرسي الأمامي فارتفع فستانها كاشفا عن فخذيها و اتكأت هي الى الخلف..بقيت تراقب رد فعل ياغيز او تأثره بذلك لكنه لم ينظر اليها حتى..بل واصل التركيز على القيادة و على الطريق..انزلت هي ساقيها و سألته" هل لديك حبيبة؟" ابتسم و رد" لست مضطرا أن أجيبك..حياتي الخاصة تعنيني لوحدي" رمقته هزان بنظرة غاضبة و قالت" بغيض..اردت فقط ان اتجاذب معك اطراف الحديث..لكن يبدو انك لست اهلا لذلك" لم يتأثر بكلامها و هو ما زاد من غضبها..وضعت سماعاتها في اذنيها و أخذت تغني بصوت عالي..وصلا بعد لحظات الى المنزل..فتح لها باب السيارة فنزلت و ما ان تجاوزته حتى قال ببروده المعتاد" آنسة هزان..اخبريني اذا قررت الذهاب الى أي مكان لو سمحت..واجبي يحتم علي ان اكون معك في كل مكان تكونين فيه..لا داعي للهرب و للتصرفات الطفولية لأنني سأجدك في النهاية" حدجته هزان بنظرة حادة و اجابت" اذهب الى الجحيم"..
ابتسم ياغيز ببرود فتحركت هزان مبتعدة عنه و قد استفزها بروده..اما هو فبمجرد ابتعادها عنه تجهم وجهه و اختفى قناع البرود الذي كان يرتديه..مرر يده على عنقه بعصبية و أخذ يتنفس بعمق و بصفة متتالية..انها فعلا فتاة مستفزة و متمردة..و يبدو بأنه سيتعب معها كثيرا..و ليت هذا فقط كان ما يقلقه..لكن ما يؤرقه و ما يتعبه هو أمر آخر تماما..أمر يجاهد في اخفاءه و عدم اظهاره..و هذا هو الأصعب بالنسبة اليه..نظر يمنة و يسرة و ابتسم بسعادة عندما لم يرى أحدا..تحرك مبتعدا بسرعة و اختفى خلف الأشجار..في غرفتها..رمت هزان حقيبتها على السرير و هي تلعن بأبشع الكلمات بلغتها الانجليزية..انها تكره ان تكون مراقبة و محاصرة..لقد تعودت ان تعيش حياتها كما يحلو لها..ان تلهو و تسهر و تمرح دون ان يحاسبها احد او يعد عليها انفاسها..لكن الوضع تغير بمجرد ان وضعت ساقها هنا..لو لم يكن والدها هنا لما عادت الى تركيا من الأساس..لقد تعودت على حياتها هناك..في امريكا..حيث الاستقلالية و الحرية..لكن اباها أصر على عودتها بمجرد ان انهت دراستها و تحصلت على شهادة الماجستير في التاريخ..تستطيع الآن ان تدرس في أية جامعة تريدها..حيث تنفع طلابها بما تعرفه..و تؤسس لنفسها حياة مستقلة لا تشبه هذه الحياة التي يفرضها والدها عليها..هي تعلم جيدا بأنه يخشى عليها من أعداءه الذين يبغضونه بسبب منصبه الجديد..و تعلم جيدا بأنه يحبها و يحاول حمايتها..لكنها لن تسمح لهذا الحارس المزعج بأن يقيد حريتها و بأن يحسب عليها انفاسها..ستفعل ما تريده و لن يقدر على ايجادها في المرة القادمة...
أنت تقرأ
حب من عالم آخر
Romanceقد تصادفكم قصص حب غريبة و مختلفة..و قد تتخيلون حكايا متفردة و نادرة لعشاق يلتقون و يفترقون و قد يجتمعون في النهاية و يكتبون نهاية سعيدة لقصتهما..أما هذه القصة فهي لا تشبه مثيلاتها من القصص..و حكاية الحب هذه لا يمكن لعقولكم أن تستوعبها..لأنها ببساطة...