الفصل التاسع و العشرون

1K 39 0
                                    

جلست هزان بجانب والدها تطعمه بيدها الحساء الذي لم تستطع هي اعداده بل اعدته الخادمة عوضا عنها لأنها كانت في حال يرثى لها..لم تجف دموعها لحظة واحدة..و الندم كان يأكلها من الداخل دون رحمة..كلما اغمضت عيونها ترى وجهه أمامها..ترى حنانه و عطفه عليها..ترى احساسه بها و حمايته لها..ترى ذلك الحب الكبير الذي كان يظهر في عيونه..ترى تلك اللحظات الجميلة التي امضتها معه و بين ذراعيه..تتذكر ذلك الأمان و تلك الطمأنينة التي كانت تشعر بها عندما تكون معه و عندما يكون موجودا..و كلما تذكرت كلما اسودت الدنيا في عيونها و لعنت نفسها لأنها كانت السبب في ذهابه الى الأبد..نظر اليها والدها و تأمل وجهها الشاحب و نظراتها التائهة و سأل بقلق" هزان..ابنتي..هل انت بخير؟ لماذا تبدين حزينة هكذا؟ ان كنت ما تزالين خائفة علي و قلقة بشأني فها أنا بخير أمامك..و ليس بي شيء..ارجوك يا ابنتي..لا تحملي نفسك أكثر من طاقتها..و لا تحزني..أكره أن أراك حزينة هكذا" قبلت هزان يد أبيها و قالت بصوت حاولت ان يبدو طبيعيا قدر الامكان" انا بخير أبي..لكن خوفي عليك مازال موجودا..أخشى عليك من عالم السياسة القذر..أخشى أن يصيبك الأذى من جديد..ألم ترى ما حدث مع ذلك المسكين مراد؟ لقد فقد حياته في لحظة..و لست مستعدة أن أضحي بك أنت ايضا..أنت كل ما بقي لي في هذه الحياة..أرجوك أبي..اترك عالم السياسة هذا..قدم استقالتك من منصبك و لتبتعد عن الخطر..أرجوك..أتوسل اليك..افعل هذا من أجلي" صمت الرجل للحظة ثم قال" تمام..كما تريدين يا ابنتي..لم يبقى أساسا سوى ستة أشهر على انتهاء دورة الحكومة هذه..و ستحصل انتخابات جديدة و تعيينات اخرى و تحويرات وزارية..عندها لن أقبل الحصول على أي منصب وزاري..اعدك بذلك..لكنني لن استطيع ان استقيل الآن..لدي مهام علي انهاءها..ارجوك..تفهمي الأمر يا ابنتي" هزت هزان برأسها و قالت" اتفقنا..فليكن الأمر كما أردت..لكن اذا حدث لك شيء خلال هذه الستة أشهر..فلن أسامحك ابدا..ليكن في علمك" ابتسم والدها و قبل خدها و هو يقول" ابنتي المجنونة" تظاهرت هزان بالابتسام أمام والدها..جعلته يشرب الدواء ثم أطفأت نور الغرفة و خرجت لكي ينام..وجدت جينك ينتظرها في الخارج..جلست بجانبه و هي تضم ساقيها الى صدرها..نظر اليها بعيون حزينة و قال" هل تريدين ان تخبريني بما حدث لعل ذلك يخفف عنك؟" تنهدت هزان بحرقة و ردت" ليت ذلك كان سهلا..لا استطيع ان أقول شيئا..لكنني سأكتفي بقول هذا..هل سبق لك أن وقعت في حب المستحيل و اللامنطقي و اللامعقول؟" طأطأ جينك رأسه و تمتم" أعتقد بأنني فعلت"..

علقت هزان بسخرية" أراهنك بأنك لا تعلم عم تتحدث..مستحيل أن تكون مررت بنفس المستحيل الذي وقعت فيه أنا..اتعلم أمرا..لنصمت فقط..لا أريد أن أقول شيئا" تأملها جينك بعيونه العاشقة بصمت محترما رغبتها في عدم الكلام..كانت تائهة بنظراتها نحو ذلك الفراغ المظلم الذي يوصل الى الغابة..و كأنها تنتظر أن تراه في كل لحظة..أن يعود اليها..أن ترتمي بين احضانه و أن تنسى الدنيا بما فيها..أن تنسى ما يفرقهما و لا تتذكر سوى أنها تحبه و أنه يحبها..أن تستعيد تلك اللحظات الساحرة التي قضتها معه و ان تسترد شعور الأمان و السكينة الذي تفتقده الآن بغيابه عنها..مر الوقت ثقيلا و كئيبا على هزان و هي تجلس نفس الجلسة كل يوم..تنتظر أن يعود..تحاول أن تنام كل ليلة لكنها تستيقظ مرعوبة و هلعة بسبب الكوابيس التي لا تنفك تطاردها..تحاول ألا تظهر حزنها و تأثرها أمام أبيها لكنه صار قادرا على رؤية حزنها الدائم و كآبتها التي لا تفارقها..تقضي معه بعض الوقت و تحادثه و تهتم به..تعطي محاضراتها بلا حماس و تعود مسرعة الى المنزل..ترى جينك بين الوقت و الآخر..يحاول جذب انتباهها و التأثير عليها بنشاطات مختلفة و مجنونة كالتي كانت تفضلها في السابق..لكن دون جدوى..تتظاهر بالسعادة و تحاول أن ترسم ابتسامة على وجهها و ما ان تكون لوحدها حتى يظهر كل حزنها و ألمها..تبكي حتى تتعب..تكتب بعض الرسائل و تخزنها على حاسوبها..رسائل لياغيز..تخاطبه فيها..تناشده أن يعود..تعتذر له و تشرح له حبها و تمسكها به متمنية أن يقرأ كل حرف تكتبه..تفكر فيه دون انقطاع..تفكر فيه و هي مستيقظة و هي نائمة..تفكر فيه و هي لوحدها و هي مع الآخرين..لم ينجح اي شيء و لا أي أحد في ملئ ذلك الفراغ الذي تركه غيابه..و ها قد مرت أربع شهور منذ ذهابه..اربع شهور مريرة و طويلة مرت ببطء قاتل و مميت..اربع شهور كانت هزان تعاني فيها الأمرين جراء غياب ياغيز الذي طال و صارت ترجح بأنه لن يعود أبدا..أما هو فكان وحيدا في جزيرة بعيدة و مهجورة..يدفن حزنه هناك و يعد الساعات لكي تنتهي هذه الحياة البائسة التي سئم منها و قرر التخلي عنها..كان ينتظر قرار المجلس الذي تأخر اكثر من اللازم..دون أن يدري بأن كمال لم يوصل طلبه للمجلس من الأساس..و كان يخبره في كل مرة يتصل به فيها بأن المجلس مازال يتباحث الأمر..و اليوم صار متأكدا بأن كمال يؤجل الأمر و بأنه لن يرضى بأن يسمح له بانهاء حياته..لذلك قرر أن يذهب بنفسه للقاء اعضاء المجلس و لكي يبلغهم طلبه هذا ..

فتحت هزان عيونها صباح اليوم على وجه أبيها الواقف فوق رأسها ..يقبل جبينها و يداعب وجنتيها بأصابعه..همس بصوت حنون" صباح الخير يا ملاكي" تمطت في فراشها ثم ردت و قد ارتسمت ابتسامة على وجهها" صباح الخير حبيبي..هل انت بخير؟" تأملها أبوها في صمت للحظات بدت و كأنها لن تنتهي ثم قال بنبرة قلق" ابنتي..تسألينني أنا عن حالي بينما أنا من يجب أن يفعل ذلك..هزان..انا قلق عليك..تتظاهرين بأنك بخير لكنك لست كذلك..مالذي يحدث معك؟ هلا أخبرتني..أعلم بأنني تعودت ان أقف بعيدا عن حياتك الخاصة و عن علاقاتك..لكن الأمر لم يعد يحتمل الصمت..أراك تذبلين كل يوم امام عيني دون أن استطيع فعل شيء لك..قولي يا ابنتي..مالذي يحزنك الى هذه الدرجة؟ ما هذا الأمر الخطير الذي لا تستطيعين مشاركته معي؟" قطبت هزان جبينها و هربت بعيونها من عيون أبيها و اجابت و هي تتظاهر بالمرح" ابي العزيز..انت تبالغ بعض الشيء..ألا اعيش حياتي و اعمل و اتجول و آكل و أشرب و أنام..ألا ترى بأنني أرافق جينك و اخرج معه مرة الى سهرة و مرة الى غداء او عشاء..لماذا اذا تقلق علي الى هذه الدرجة؟ انا بخير أبي..قد اعاني فقط من بعض الروتين و الملل و انا لم اتعود على ذلك..هذا كل ما في الأمر" زم الرجل شفتيه و قال" أعلم جيدا بأنك تكذبين علي و تخفين مشاكلك عني..لكنني سأتظاهر بانني أصدقك" ثم أمسك كلتا يديها و أضاف" هزان..تذكري دائما بأنني هنا من أجلك..أستطيع تقبل كل أخطاءك مهما كانت..و قلبي و بابي مفتوحان لك على الدوام..تستطيعين اخباري بكل شيء متى أردت..و ستجدين والدك يساندك و يدعمك و يحبك كعادته..اياك أن تنسي هذا" قبلت هزان يدي والدها و قالت" أعلم هذا جيدا أبي..أنت افضل أب في العالم..و أنا أحبك جدا..شكرا لأنك أبي..و لأنك موجود في حياتي" قبلها ابوها من جديد ثم قال" سأذهب الى الوزارة..لدي عمل مستعجل..سأنهيه و اعود سريعا" نظرت اليه هزان و سألت" ألم يئن لهذا العمل أن ينتهي؟" رد" تبقى شهران فقط و ينتهي..كما اتفقنا سابقا" خرج والدها بينما استوت هي في جلستها و هي تهمس بنبرة حزينة" ليتني استطيع اخبارك يا أبي"..

حب من عالم آخر حيث تعيش القصص. اكتشف الآن