[ ما بعد الرحيل - سقوط الأقنعة - الفصل الثالث ]

3.9K 387 170
                                    

◆◆◆

قال الطبيب ونظرة أسى وشفقة تعلو وجهه:

- البقاء لله يا ابنتي، لقد فارقوا الحياة جميعا.

لايسعني وصف وقع كلمات الطبيب على مسامعي، للحظة فقدت صوابي، بدأت أنسج خيوط الأمل، لربما أختلط عليه الأمر بيني وبين شخص آخر؟ أو لربما كنت في كابوس مريع! فلطالما حظيت بهذا النوع من الكوابيس الواقعية التي ما إن أصحو منها حتى أحمد الله على نعمة الحياة التي أحياها كيفما كانت.

لقد كنا على نفس المائدة صباح اليوم، لقد قبلت خد أمي، جبهة أبي، مشيت جنبا إلى جنب رفقة أخي لأكثر من نصف ساعة، ضحكنا، تشاجرنا، بعثر شعري، اتفقنا على طلب البيتزا مساء، فكيف لهم أن يكونوا في الجانب الآخر من العالم بحق خالق السماء!

قلت بصوت أجش متقطع وقد علت ثغري بسمة يائسة، شاحبة، شاردة، أقرب للجنون:

-لاشك أنه حلم، علي أن أصحو حالا.

أطبقت جفني لوهلة أنتظر أن توقظني أمي، أن تنقذني، أن تنتشلني من هذا الجحيم قبل أن أفقد ماتبقى من عقلي.

لا أمل، أدركت حينها أنني لن أصحو على صوت أمي مجددا.. تلك اللحظة حطمتني، كسرتني، سلبتني سنينا من الحياة، مزقتني إلى أشلاء.. لقد فقدت كل شيء، فقدت صبري، رشدي، صوابي وعقلي.

لم يقوى عقلي على استيعاب رحيلهم، مازلت أرفض حقيقة أنني لن ألقى أمي على أريكة الصالة تطرز المناديل بعد الآن، ولا أبي منصبا على إحدى كتبه النقدية بيد وبالاخرى يحتسي بها قهواه المرة، ولا أخي وهو يعزف على الغيتار في غرفته، لازالت كل ذكرى تنبض بداخلي تأبى تصديق أن لا منجا ولا ملجأ لي بعد اليوم إلى الله تعالى.

*

أمضيت شهرا كاملا تحت وقع صدمة تلك الفاجعة، لقد توقف عداد حياتي آن ذاك. لم أستيقظ إلا على صراع أعمامي و أخوالي وجداي على ماترك اهلي خلفهم، هنا بالذات أدركت أن الميت حين يرحل لا أحد سيحفظ أساه على رحيله اكثر من أسبوعين.

فمالبث كل طرف يكشر عن أنيابه معبرا عن رغبته في تقسيم الإرث الآن وحالا متحججين بالعيد وبالعودة إلى المدارس والمرض وقسوة ظروف الحياة إلخ...

كنت مشاهدة في المنتصف أروي عيناي برحمة أقربائي. هه بئس القرابة هي!
ما أدهشني حقا هو مقدرتهم على التمثيل طيلة السنين التي مضت؛ فلطالما مارسوا مواهبهم في التملق وأظهروا لنا حبهم الشديد المتدفق قبل مفارقة أهلي للحياة، ما الذي دهاهم؟ أين ذهبت عاطفتهم الجياشة بحق خالق الجحيم الآن؟

بعد أن قسموا ماتبقى من بيتنا المتفحم من الممتلكات والأثاث المتبقي وحق السيارة بعد بيعها وحلي أمي، هه بل حتى شيء من ممتلكاتي، سبحان الله لقد ورثوني بينما أنا على قيد الحياة . محقون فقد سلبت حياتي بالفعل بعد رحيل أوردة قلبي.
لكنني تمكنت من أن اغنم بشيء من أغراضهم المتبقية، بفضل ذلك الإطفائي النبيل الذي جمع كلا من هدايا أهلي، نظارة أبي و منديل نال منه شيء من الحريق لأمي، ودفتر نوتات أخي للأسف لم اتمكن من الاحتفاظ بغيتاره فقد باعه خالي واشترى بحقه حذاء، قنينة خمر على الأرجح، وسوارا للحثالة حبيبته.

وبما أنني في الثامنة عشر من عمري ارتأى أخوالي وأعمامي أنني ناضجة وعلى قدر كاف من المسؤولية ليتكفل بي أحدهم، وقد أحسنوا صنعا. شاكرة لهم ذلك، فأنا لا أود أن اتقاسم الحياة مع جماعة من الذئاب.

*

بعد أن عرض أخوالي المنزل للبيع دون جدوى تركوني للعيش في غرفة في سطح بيتنا المحترق الذي كان أقل تضررا من الحريق الذي شب آنذاك، فمن العاقل الذي قد يجرؤ على ابتياع بيت متفحم فارقت أسرة بأكملها الحياة فيه إثر حادث مروع؟

وها أنا ذي أحيى بسلام، أسعى جاهدة شفاء الجراح التي لا تزداد إلا تعفنا بداخلي، أرجو أن أتعرض لحادث يفقدني الذاكرة كي أخلص نفسي من ذكرى فقدي، وأتخلص من كابوسي الليلي المتكرر الذي يزيد من اتساع مساحة الضرر في نفسي ويقتل بي الرغبة في الحياة يوما بعد يوم.

نسيت أن أحدثكم عن سبب الحريق؛ لقد كان كعكة نجاحي! يالها من مهزلة..

أضف على ألمي شعوري بالعار كوني سبب مقتل أهلي، لكن كلمات ذاك المختص بعد الحادث جعلت الشك يرافقني منذ ذلك الحين إذ أخبرني أن بالرغم من كون جثث كل من أمي، أبي، وأخي متفحمة مما صعب عملية التشريح إلا أن لا أثر لأي مقاومة جسدية على أجسادهم لا أثناء اختناقهم ولا احتراقهم ولا احتضارهم.

لا شك أن الأمر كان قاسيا عليهم لكن ما أعرفه عن أحبائي أنهم ما كانوا ليضعفوا عزائمهم وهم على وشك الموت، كما أنهم ظلوا على وضعهم الطبيعي لم يحاولوا الخروج ولا الفرار، الغموض واللبس يكسو هذه الحادثة وهذا مايشغل ذهني طوال الوقت.

نحو الضياءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن