[ وحدة - اختناق - الفصل السادس عشر ]

2.6K 281 328
                                    

بعد أن بدأ ربيع حياتي يزهر، بعد أن تجردت من كل حقد ملأني طيلة السنين الثلاث التي مرت، بعد أن صرت جوفاء خالية من كل حس عدا اعتزازي بنفسي ونصري، وبعد أن أدركت قيمة أصغر الأشياء وأدقها بعد كمية الخسارات التي ألحقت بحياتي، ها أنا ذي أقبل بعزم على الحياة، أجابه كل ما اعترض طريقي، أدافع عن أبسط حقوقي بشراسة من لا تخشى أن تخسر شيئا، ببساطة، لأن لاشيء في حوزتي لأخسره بعد الآن.

لقد رزقت بعمر جديد ذلك اليوم لأحيا كل يوم راجية لهم الرحمة، أشتاقهم جدا، فقدهم جرح طري لايشفى، يمزق أحشائي دونما انقطاع، يبلل وسادتي كل ليلة قبل أن أخلد إلى النوم، ثم يرافقني في أحلامي، كل يوم نفس الحلم، صباح دافئ لطيف لا يخلو من عبق الشاي بالنعناع، فطائر التفاح، رائحة قهوى أبي وصوت تقليب صفحات جريدته، تذمر أخي جراء الاستيقاظ باكرا،... يا الله من جلاء صورة هذا الحلم في ذهني! واقعيته تنهكني، تعذبني، بل تطعنني عشرين مرة! آه من تلك اللحظة التي أصحو فيها، باحثة عنهم بقلة حيلة في مكان لم أألفه بعد لأرتطم بواقع موحش قارس يبث برودة قطبي الكوكب في صدري، مخلفا حسا موجعا لا يوصف ثم سيلا من دمع لايتوقف.

مسحت عبراتي بأكمامي على عجل، لآخذ حماما دافئا يذيب صقيع الوحدة من على كتفي، ارتديت أحد فساتيني التي صممت معظمها، معطفا سميكا، ثم وشاحا صوفيا كوننا على أبواب نوفبر، شهر مولدي، ليجعل مني فتاة في الحادية والعشرين خريفا.

حملت حقيبتي بيميني، مجلد تصاميمي في يساري، مفتاح سيارتي ثم غادرت البيت متجهة نحو عملي، ثم أقبلت على الشركة لأجد كل من فيها في حالة فوضى والذهول يملأ وجوههم بينما يلهو الشتات بهم، مابال هؤلاء أحل بنا الطوفان ام ماذا بحق خالق السماء؟!

أوقفت ميرال على عجل ممسكة بكتفها :

- ما الذي يجري هنا بحق خالق الجحيم؟

أجابتني مرتبكة ببؤبأين يلهوان في مقلتيها : المدير..قيل أنه قد مات!

استوقفتني كلماتها للحظة، عشت ماخلت أني قد نسيته منذ سنين، تملكني نفس الشتات الذي استولى على باقي الموظفين، عدت بالزمن سنين إلى الوراء لثوينة، ثم لسبب ما امتلأت أنفاسي برائحة المستشفى، لم أكن على علاقة قوية بالمدير إلا أنه كان كالأب لنا جميعا، لقد كان رجلا في منتصف العمر، أنيقا، ذو شاربين، ممتلئ الجسم ذو وجه باسم، اشتعل رأسه شيبا، لم يبارح المشفى مؤخرا منذ أن انتشر داء السكري فسائر جسده.

قاطعت هذه الأخيرة خط ذكرياتي: كما تعلمين لا شريك للمدير ولا شك أنك أكثرنا معرفة بعدم كفاءة ابنته الوحيدة لتولي العمل بعده، لا نعلم ماقد يحل بالشركة، قد نفقد جميعا عملنا هنا قبل أن نحصل على رواتبنا  أو نحضى بوقت للبحث عن عمل حتى!

تمتمت محدثة نفسي بعينين ذابلتين شاردتين: إذن هذا أول مايخطر على الأحياء عند موت أحدهم حقا...

نحو الضياءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن