إنها الحادية عشرة صباحا، لا أذكر حتى متى كانت آخر مرة ضللت في السرير حتى هذا الوقت، تحسست ذراعي ليلسعني الألم منتشرا في سائر أنحاء جسدي، جلست على حافة السرير محدقة بشرود في بقعة وهمية محاولة استيعاب ماحدث لي حتى الآن، ثم وقفت بثبات قدر المستطاع عازمة على إلقاء كل مانغص علي صفو الحياة منذ وفاة أهلي خلفي، بل إلى الجحيم.
توجهت إلى عيادة اختصاصي أمراض العظام، الذي حاول جاهدا إخفاء هلعه من منظر وجهي الذي تخفت ملامحي بخجل خلفه، بل أكثر ما أثار ريبته هو خضوعي لعملية ترميم لذراعي المهشم لفترة تناهز الثلاث ساعات دون أن يرافقني فرد من ذوي أو يأتي أحد للاطمئنان علي، تماما، كما لو كنت غصنا وحيدا مزهرا في شجرة ميتة، رغم الفضول الواضح على محياه إلا أنه شخص متفهم ودود امتنع عن إحراجي بسؤال إجابته سرد قصة حياتي، لف هذا الأخير طبقة سميكة من الجبس على معصمي بأكمله ليشكل ذلك ثقلا إضافيا على كتفي الهزيل.
اتجهت بعدها إلى مكتب شؤون الطلبة لأقدم طلبا للالتحاق بسكن الطالبات، لم يستدعي الأمر مني سرد ظروفي القاسية على مسامع المشرفة ومدى حاجتي للإقامة فقد قدم وجهي نبذة لا بأس بها عن حياتي البائسة.
-عنف أسري.
اكتفت بإجابتي المقتضبة كسبب لرغبتي في الإقامة في السكن بالرغم من كوني طالبة تمتلك"عائلة" و"منزلا" مجاورا للجامعة بالفعل.
صحيح أن لا ملجأ لي في أيام العطل بعد إغلاق آخر غرفة في حي الطالبات إلا أنني سأتدبر أمري حينها، الأهم هو أن أجد سقفا يحميني برد الشتاء ويجعلني في مأمن من خالي الذي لا أدري عن ماهية نواياه نحوي بالضبط، أتساءل كيف له أن يضل هادئا بعد أن وجد دليلا -مهما كان ضئيلا ضدي- تركه إياي بسلام بعد طردي من المنزل يجعلني في حيرة من أمري، فالتخلص من شخص لن يسأل عنه أحد مثلي لهو سهل حتى على أقل المجرمين خبرة وكفاءة.
بعد أن حصلت على مفتاح غرفة تخصني من المشرفة أول ماخطر علي حينئذ هو أن أقصد زميلة قديمة لي هي طالبة حقوق تتدرب على يد أحد المحامين، أخذت منها عنوان المكتب، بعد أن رجوتها أن تستشير لي مدربها فيما يخص مسألة حقي في الإرث الذي لم أطالب بحصتي منه ولم أفكر في الحاجة إليها يوما خشية أن أغدو شبيهة كومة الحثالة تلك، علمت بعدها أن نصيبي فيما تبقى مما ترك والداي كفيل بأن ينتشلني من الضياع الذي أعيشه، وطبعا لن أغفل عن الأضرار التي ألحقوها بي إضافة إلى محاولة ابن الحثالة الاعتداء علي، لربما قيل عني أني فتاة تجردت من حيائها كي تصرح بتعرضها لأمر مشابه بالرغم من نجاتها، لكن ذلك الضبع التائه هو الأولى والأجدر بالخجل والشعور بالعار مما أقدم على فعله، فسكوتي عن الأمر لن يفسر من لدنه ولدن كل شبيه له حول الكوكب إلا أنه بطاقة خضراء تتيح فعل مايحلو لهم مختبئين خلف ستار العار والسمعة.
لقد مرت خمسة أشهر بالفعل، عدت إلى العمل بعد أن شفيت تماما، كما سجلت في مدرسة معروفة لتصميم الأزياء بفضل تشجيع السيدة ثريا وإقراضها لي ثمن رسوم الدروس ومستلزماتها، عزمت أن أضاعف جهدي لدفع أتعاب المحام الذي وكلته منذ فترة لأسترجع شيء من حقي، من كبريائي، من اعتباري ويمنحني فرصة للانتقام لكن بشكل سلمي قانوني كما أحب بالضبظ، لا أخفي عنكم أن تلك القضية استنزفت مدخراتي وراتبي حتى آخر فلس، مما جعلني أعمل في أكثر من دوام جزئي، في مخبزة، محل أزياء في إحدى المراكز التجارية، في مكتب ترجمة المقالات والكتب...، لكن من يأبه مادمت سأعكر عليهم صفو الحياة الرغيدة التي يحيونها على حسابي؟! لأكون لهم كالحسكة في بلعومهم حتى لو كلفني ذلك بيع كليتي!
أنت تقرأ
نحو الضياء
ChickLitوتلاشى الذنب بعد أن طرق يائسا أجراس الوحى.. إني واقعة في الحب.. ولم أدرك يوما أن الحب سم الضمير والعقل.. فإني لا أبصر الآن سوى نفسي رفقته بقية العمر..