[ بداية الكفاح - صمود - الفصل الرابع ]

3.5K 363 139
                                    

◆◆◆

عشت طوال الأشهر الأربع الماضية بمعاش أبي و بعملي في مشغل إحدى الخياطات في الجوار إلى جانب حصولي على منحتي الجامعية، أجل لست من تتخلى عن دراستها لأجل العمل أو تحت أي ظرف كان، لكن للأسف لم يكن بيدي دخول كلية الطب التي أمضيت طيلة حياتي الدراسية أطمح لولوجها، نظرا لعدم خصوعي لا لمباراة القبول ولا للمقابلة، ماكان لي في اليد حيلة فقد توقف بي الزمن آنذاك، فآل بي المطاف بالتسجيل في كلية الاداب تحديدا شعبة الدراسات والأدب الفرنسي.

قررت خلال هذه الفترة ادخار المال لإصلاح مايمكن إصلاحه في بيتنا الذي بات قصة الحي التي أنا بطلتها -الفتاة المجنونة- التي تسكن بيت الأشباح، فقد بات أبناء الجيران يتوجسون مني كل فينة عند مروري بالجوار مختبئين وراء ذويهم، بينما يرمقني أهاليهم بنظرة شك وريبة مختلقين عشرات القصص، إذ كيف لابنتهم الوحيدة النجاة من تلك الحادثة اللعينة؟ صدقا، لولا انعام الله علي بنعمة تجاهل الحمقى لكنت في مصحة الأمراض النفسية والعقلية أو السجن حتى منذ زمن.

◆◆◆

بالفعل تمت عملية ترميم البيت وعاد إلى سابق عهده تقرييا بعد شهور من العمل الشاق والمستمر، لكن النقص والقصور لازال يكسو كل ركن فيه، فكلما أمعنت النظر أجد أن شيئا ما ينقص هذا البيت الحزين، شيء لا يعوض، شيء كالنور، شيء كالدفء، أشياء لو قضيت عمري أعمل وأتلو في الصلوات أبدا لن أكون قادرة على إعادتها.

هذه هي حقيقة البشر؛ أرواح واهنة وأجساد هزيلة سهلة التلف، إذا رحلت تمضي دونما عودة . .

لكن مهلا! دعوني أهمس لكم بأمر وأنا أعتصر ألما : لقد كان هذا أ ب ش ع خطإ اقترفته على الإطلاق، فسرعان ماجاءت جدتي و خالي وابن خالتي ليقطنوا معي.

يكاد قلبي ينزف بين قضبان قفصي الصدري من شدة الندم كلما عادت بي الذاكرة إلى ذلك اليوم، فلم أكن انوي أبدا، مطلقا وبتاتا أن حياتي ستأخذ منعطفا بتلك الخطورة!

في البداية سعدت كثيرا. كنت حمقاء حتما، حسبت أنني سأسترجع شيئا من عائلتي، لكن سرعان مابدأت أصرف أموالي لإشباع بطون العاطلين عن العمل ولإسعاد ضيوف جدتي بالهدايا والحلويات وأمسيات العجائز.

لكن مالبثت جدتي تسمعني عبارات المن والرياء لإبقائي معهم في "منزلهم" إذ أن أبي منحه لأمي هدية فعيد زواجهما العاشر وماهو ملك لأمي ملك لجدتي بالطبع إلى آخره من ثرثرتها اللانهائية بفخر عن ذلك وكأنها لا تتحدث عن إبنتها المتوفاة منذ فترة وجيزة من الزمن. ليتك أخبرتني بهذا من قبل ياجدتي الحبيبة أقسم لك ما كنت لأصرف على إصلاحه قرشا واحدا!

هذا بالضبط مايحدث حين نرفع سقف توقعاتنا بالبشر ونظهر لهم ضعفنا، نحن فقط نداس ظنا منهم أننا في حاجة معوزة لهم، وأننا بدونهم للهلاك.

*

أكثر ما أوجعني بحق أن كرمي هذا انقلب امتنانا لهؤلاء الوافدين، فكل إحسان قمت به صار واجبا أستحق العقاب إن تملصت منه أو تأخرت في آدائه.

فبعد أن باشر خالي بإحضار الخاطب ذو السنين الأربعين وهذا الخاطب المعدد وذاك الخاطب المطلق ذو الاطفال الأربعة، وصديقه العاطل المدمن العالة على أبيه المقعد، وبعد أن كثر ترددي على أعراس من نعرف ومن لانعرف رفقة جدتي، ونهرها إياي إثر رفضي الرقص والترنح واستعراض حوضي أمام أمهات "العازبين" والتودد إليهن.

أدركت أن هذا ماهو إلا تكتيك للتخلص مني وإرسالي إلى جحيم الزوجية من ثمة الاختلاء بهذا البيت والظفور بمهري الذي لن يكفي لدفع إيجار غرفة لشهرين حتى على الأرجح. على أي، لم ألق اهتماما لكل هذا فلست بهذا الوهن والغباء لأستسلم لهم وأرمي بنفسي إلى البؤس بكلتا يداي.

لكن ناقوس الخطر لم يدق إلا بعدما توالت محاولات ابن خالتي في التحرش بي، فمهما بلغت صلابتي لن أجاري قوة هذا الوحش المختل العالة المدمن الجاهل ذو السوابق القضائية عديم الرجولة والإنسانية الذي لا يملك شيئا ليخسره. .

◆◆◆

بعد أن بدأ جحيم نور يصير أشد سوادا من ذي قبل، هل ستكون قادرة على الصمود والمقاومة ؟

أم سينتهي بها الأمر خاضعة لجبروتهم ؟

نحو الضياءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن