تقف تلك الطفلة الجميلة متكأة على عتبة باب الغرفة التي توجد فيها أمها، تراقبها وهي في غاية السعادة، تعلو قسماتها ابتسامة عفوية، تخيط بفرح فستان طفلتها الذي سترتديه اليوم لمناسبة فريدة، يكاد إيقاع إبرة الخياطة السريع يدفعها للرقص..
تسائلت إيدليا في نفسها، لو أنني أستطيع أن أعبّر لكِ يا أمي عن مدى امتناني لما تفعلينه لي، لو تتيح لي الفرصة للتكلم مرة واحدة فقط، لعلمت كم أحبك أنت وأبي..
انتبهت لها أمها وهي تقف بهدوء تراقبها٬ فنادتها :
"هيا يا صغيرتي ليس لدينا متسع من الوقت، لقد أنهيت للتو أجمل فستان لأجمل طفلة في كديميس كاملة بل في الدنيا كلها "
ثم تناولت مقصا وتخلصت من الخيوط الزائدة، ورفعته بكلتا يديها بعيدا عنها قليلا تراقبه بكثير من الفخر لما أنجزته، ولتتأكد من أن لا شيء ينقصه، وأن العمل أنجز بالكامل ..
أشارت إيديليا بيديها بحركات مختلفة لتخبر والدتها بأنها أحبت لون الفستان اللؤلؤي كثيرا، وأحبت ذلك الدانتيل المنسدل فوق الفستان..
كانت والدتها قد تعلمت لغة الإشارة وعلمتها إياها بسرعة؛ فهي تمتلك سمعا قويا ولذلك تعلمت التواصل مع والديها بشكل طبيعي، ولكنها لم تستطع تكوين علاقات طبيعية مع من هم في سنها، كانت تشعر بالوحدة التي تدفعها دائما للبحر، تجلس ساعات على عتبة المنزل، تلقي بقدميها في الماء في ممر يصل بين البحر وتلك العتبة، حفره أبيها بذراعيه القويتين منذ زمن٬ تعد أمواج البحر وتسرح بخيالها بعيدا في أفقه فتشعر بالراحة ..
جهزت الأم نفسها وأكملت ترتيب بعض التفاصيل لإيديليا، فقد أضافت حبلا لطيفا من الورد الأبيض، يلتف حول جديلتها ويعود آخره كطوق فوق رأسها برقة ونعومة، ثم نظرت لعينيها قائلة لها :
"أتعلمين يا صغيرتي أنك أنت من أضفت جمالا على هذا الطوق، فمثل ذلك الوجه الجميل، لا يحتاج للزينة"
ثم قالت في نفسها :
"لن أتوانا عن الإهتمام بك وكأنك ابنتي التي لم أنجبها، يكفي أنني موجودة بجانبه بسببك أنتِ!"
ثم انتبهت على صوت صهيل الخيول ووصول العربة اللتي ستقلهم ..
دخل زوجها جبر على عجل مناديا :
" مارلين.. إيديليا.. هل تجهزتما؟ لقد جهزت العربة التي ستقلنا للأوبرا ! "
أسرعت مارلين وأمسكت حقيبتها وأمسكت بيد إيديليا :
" ها نحن قادمتين يا عزيزي "
ركبت مارلين في العربة بجانب جبر وركبت إيديليا في المقعد المقابل لهم بجانب النافذة..
همست مارلين بأذن جبر :
" لا أصدق أنهم وافقوا على إقامة حفل في مسرح الأوبرا الكبير لتغني فيه إيديليا وهم يعلمون أنها لا تتكلم !، كيف اقتنعوا بذلك !؟ "
أجابها جبر :
" أنا لم أقنعهم ! أنت تعلمين أن من بنى هذا المسرح هم عائلتي مارتن والعمدة، وأن داني هو المسؤول عنه الآن برفقة زوجته "
مارلين باستغراب:
"وهذا ما زاد تعجبي من الأمر "
أكمل جبر :
" وما إن عرضت عليه الأمر حتى وافق على الفور ، يريد أن يجعلني مادة للسخرية ،حتى أنه وجه دعوة لكبار الشخصيات من الأثرياء والعمداء في القرى المجاورة؛ حتى يتسبب لنا بقدر كبير من الأذى والإحراج "
بادرته مارلين قائلة :
" ولكنك تعلم أن هذا لن يحصل "
جبر :
"أنا خائف على إيديليا أكثر من قلقي من ذلك المدعو داني "
مارلين :
"سيكون كل شيء على ما يرام ، لا تقلق "
أكملت العربة سيرها إلى المسرح، وعند وصولهم كان هناك حشد غفير بانتظارهم تفاجأوا به، وكان داني وزوجته روز يرمقانهم من بعيد بسخرية، يتهامسون ويضحكون، فقد جمعوا حشدا كبيرا بسبب إعلانهم الغريب الذي وزعه داني..
نظر جبر موضع قدميه، فإذا بملصق الإعلان مكتوب عليه « أوبرا الخرساء »
فاشتد غضبه، ولكن مارلين هدأته قائلة :" سيشعرون بالندم بعد قليل "
ركضت إيديليا فور رؤيتها جدها جوسيا يقف مع جدها فيليب إليهما سعيدة بحضورهما، ودخلوا جميعا بعدها للمسرح..
صمت يسود المسرح رغم اكتظاظه، ضحكات ساخرة من بعضهم، والجميع يتوقع سماع صوت مكعكع مرتبك أو كالزعيق من تلك الخرساء..
وقفت إيديليا بثقة، تقدمت.. أغمضت عينيها ثم أطلقت لناي حنجرتها العنان!!
صوت قوي كالبحر، ناعم وعميق كأنك تسمعه من داخلك وليس من أذنيك، ينتشر بتناسق في الفراغ، إنه أكبر من أن تمتلكه طفلة فكيف تمتلكه طفلة خرساء !؟ ، بل من الإستحالة على أي إنسان طبيعي امتلاكه..
ذهل الجميع مرة واحدة، وأخذ هذا الصوت يأخذهم شيئا فشيئا لعالم آخر، وكأنهم يستمعون لصوت الأعماق، أعماق البحر..
أخذ صوتها الجميل والدها جبر لعالمه القديم.. للصراع مع الأمواج.. للبحر..
بدأت تلك الصور تنساب كالحلم على إيقاع صوتها.. أغمض عينيه ليعود لذكرياته القديمة..
لحبيبته القديمة لذلك الجمال، لمطارداته لها لصوتها، للعبها ،لجمال عينيها الذهبيتين اللتين لطالما طاردهما.. لطالما أراد الإمساك بها..يتــــــــــبع ..
تصويتكم 💛 وآراؤكم 🌸
15/11/2019
8:06 م
أنت تقرأ
آريس الحورية الهاربة
خيال (فانتازيا)دائما ما كان يحدث نفسه بها إنها شغفه كانت ولم تزل حتى إذا اعتادت مطاردته لها شعرت بالحنين وما بينه وبين البحر احتارت حتى اختارت العودة للهروب ولكنها ارتبطت في الغربة بشيء من نوع آخر فهل تعود؟