غالباً ما يبقى التساؤل عن جوهر الحقيقة بلا اجابة: أهي وجه آخر للخديعة، أم وجه الشخص الآخر الذي يخدعنا عمداً دون أن يمتلك ذرة حياء؟
سؤال معقد يحمل بين طياته جواب أكثر تعقيداً لا يمكن للحقيقة نفسها أحياناً القبول به؛ فالحقيقة تبقى دائماً وأبداً أمامنا، موزعة فينا، وبيننا، وفي الطرف الآخر المختلف عنا، في الروايات المتشابهة وأضدادها، المحرفة حسب الأهواء الشخصية والانتماءات، وفي الستار الشفاف الذي يفصل بين كل هذه المناورات، متفاوتة الدرجات، من أقصى درجات الصدق والنزاهة حتى أرذل مستنقعات الكذب والرياء. الجميع يكذب، وإن كان على نفسه، بينما وفي المقابل، تفرض الحقيقة نفسها فرضاً ولو اكتفت بالتمثل في بعض الإشارات المؤدية إلى كواليس مسرح خفي، تعرض عليه مسرحية الواقع، التي تملك وجهاً مختلفاً تمام الاختلاف عمّا نريد رؤيته ونمنحه بعوالمنا الوردية أجمل الصفات والأسماء، وهذا ما يجعلنا نخشى المواجهة أحياناً ونتظاهر عندما نجبر عليها قسراً بالغضب والاستياء من أبسط الأشياء.
مع ذلك، تبقى الحقيقة عنيدة جداً، مثل حليفتها الحياة. إذ تهبنا الأخيرة كل يوم، من شروق الشمس حتى مغربها، اشارات ورسائل معينة يُمكن من خلال اتباعها تغيير اتجاهاتنا، لنختار البقاء، أو تحثنا على الابتعاد عن هاوية الأكاذيب وكل ما سيجلب علينا الشقاء. وكل يوم، يزعم البعض أنهم لا ينتبهون إلى هذه الإشارة ـ ولو ومضت أمام أعينهم وكانت حمراء، ويتظاهرون أنهم يؤمنون أن اليوم هو شبيه الأمس، وأن الغد سيكون شبيهه بأدق الأجزاء، غافلين أن الإشارة ستبقى موجودة مهما تعاملوا معها باستخفاف وإزدراء، كامنة في هنيهة تتجمع فيها كل طاقة الكواكب بلحظة فلسفة وجودية يعجز عن تفسيرها أشهر العلماء، فتتيح لمن يراها أن يأمن ويكون من السعداء، وتدفع من يتجاهلها عمداً إلى الضياع في دوامة إلهاء يفقدون فيها القدرة على التمييز ويصبحوا للأسى والندم بعدها سفراء. فالسعادة لا تأتي لتستريح على حجر طالبيها فجأة بعد رحلة قصيرة في الأرجاء، بل تمثل في معظم الأحيان ما يجهد الإنسان الواع لتحقيقه والوصول إليه دون كلل أو ملل أو اكتفاء، وتلك الإشارات هي ما تعين 'العقلاء' على ملىء الثغرات وعدم ارتكاب الأخطاء، وتحثهم على السعي خلف أحلامهم، والبحث عمّا يمنحهم حقاً السلام النفسي والهناء، رغم تأكدهم بأنهم سيواجهون الكثير من العقبات والمشاكل والمواقف العصيبة متفاوتة الأصداء، وأن المشقات ستعترض دروبهم ريثما يرون نقطة الضياء، مدركين ضرورة ألا يلتفتوا إلى الوراء، مهما ارتفع داخلهم مؤشر الخوف والكبرياء، أو حتى التبس عليهم الفصل بين المجرمين والأبرياء.
* * * * *
عبرَت ريح باردة حدائق والفناءات الخارجية المرصوفة المحيطة بمبنى(Dom s Atlantami)في موسكو، وطيرّت أوراق الشجر الذابلة وبعثرتها، لترقص الطبيعة رقصتها البرية المجنونة على أنغام سيمفونية ليلة صيفية قارسة البرودة، قالبة المشهد الساكن الأنيق رأساً على عقب، كأنما تتحدى عجرفة المبنى التأريخي المترف الشامخ بوجه تحديات الزمن منذ أوائل القرن التاسع عشر، وتذكره أن سلطتها ستبقى دائماً الأقوى، والأكثر تأثيراً، بينما تجرف الأوراق الجافة نحو المدخل المركزي وتدفعها أسفل الباب الرئيسي، أثناء طرقها العنيف على النوافذ الكبيرة، محدثة صوتاً كصوت وابل من البَرّد مضى يتكسر بين شقي رحّى واجهات حجر القصر الأثري، الذي أعيد ترميم طوابقه الستة بشكل مدروس جعله يحتفظ بأبرز ملامحه المعمارية الأصلية من الخارج دون المساس بزخارفه الجصية المذهلة والمنحوتات الفريدة لتماثيل(اطلانتس*)الضخمة، المنتصبة خارجاً، تسند الشرفة فوق المدخل المركزي ذو السقف النحاسي متلألىء الانعكاسات.
أنت تقرأ
{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984
Romanceسيمفونية الجليد والنار الجزء الثالث سلسلة اسرار خلف أسوار القصور كتابة وتأليف: Noor 1984 تصميم الغلاف والقالب الداخلي: Gege86 دار نشر منتديات شبكة روايتي الثقافية - قلوب أحلام الغربية https://www.rewity.com/forum/t478760.html روايات غربية بقلم noor1...