الفصل الرابع عشر"الجزء الثاني"

222 8 2
                                    


بدت غرفة عيادة الطبيب مورينسكي هادئة جدًّا، ساكنة، زاخرة بالأضواء والظِلال، بالستائر العمودية التي يُحركها النسيم، بروائح النظافة الطبية الموسوسَّة ومعطرات الجو الخفيفة، بأشياء صغيرة حقًّا وغير ملحوظة نسبيًا، لكنها تجلَّت لإريانا بكل وضوح بينما تجيل بصرها في أرجاء المكان الأنيق، وتراقب رقصة الضوء فوق نِضد المكتب اللمّاع والحائط الأبيض، هاربة بنظراتها بعيدًا عن اخصائيّ الأورام الشهير، وأصابعها البيضاء الشاحبة تقبض على طرف تنورتها السوداء الرسمية بشدة كادت تمزق النسيج الرقيق.

كان التوتر الشديد ينسج من حولها فراغًا له أجنحة، فراغًا يتراءى لها أنه يطير داخلها، يرفرف من فوقها، من أسفلها وجانبيها، حتى باتت أسيرة الصمت، لا يرافقها شيئًا سوى التهيؤات والتكهنات في عربة الغموض، تتمنى لو كان بإمكان الزمن أن يتوقف ويترفق، ربما يعيدها إلى نقطة البداية، يمنح ذاكرتها فرصة لأن تهدأ، وأن تتخلص من ذلك الخوف المزمن المغروس في صدرها عميقًا بجوار أبجديات النهايات: خوف الفقد، خوف الهجر، وخوف الفرح. الخوف الذي يختلط مع كل شعور مُرّ تلتقطه حواسها وهي تحاول استعادة التحكم بمسار خطواتها الماضية نحو المجهول بسرعة خارقة، وكلمّا تسترجع سيرتها الذاتية يزداد يقينها أنَّ شرور العالم ومآسيه ما فتئت تتجمع بلا سبب أو معنى مفهوم حقيقة أمامها منذ بداية نشأتها فقط لكي تحرمها من تحقيق هدفها في أحلامها ـ المشروعة قطعًا، وتتراص كالبنيان في مواجهتها دائمًا لتمنع "طابة الحظ" الخاصة بها من الوصول إلى شبكة الهدف، ثم تنفرج أحيانًا دون مقدمات، في اللحظة ذاتها التي تقرر فيها أن ترمي سلاحها وتستسلم لتعلن أمام العالم انهزامها وفشلها الذريع كأنثى.

يحدث أن تسخط من الحياة رغمًا عن صمت حروفها، يحدث أن تعجز عن طرد الحزن القابع في داخلها، يحدث أن تغضب وتحنق وتتمرد لتصرخ متسائلة عمَّا فعلته كي تستحق ما يجري لها، لكن النتيجة واضحة: الزمن ـ مثل العشق والقدر ـ لا يمنح فرصة أخيرة، بل أنه يمنح عدة فرص متتالية ويجب أن يؤمن المرء أنها قد تكون الفرصة الأخيرة، والنبضة الأخيرة، والكلمة الأخيرة أيضًا! وهي لا تملك سوى أن تشاهد ما يحدث، تترقب أين سيأخذها قدرها وتتبعه صاغرة لتبذر العمر في الدرب الذي قدر لها أن تسلكه سلفًا بكل خضوع.

غرست أظافرها القصيرة في الجلد الطري أعلى ركبتها حتى كادت أن تمزق الجوارب الشفافة بلا وعي منها، ثمة دوامة من الأفكار المتخبطة تدور في رأسها وتثير التوتر في أعماقها رغم هدوء المكان الذي يساعد على الاسترخاء. ركزت بصرها في بقعة ضوء بيضاء بدت كأنها نجمة نهار مضيئة على جدار الغرفة شاحب الزرقة،

وسحبت الهواء بدفعة قوية كتمتها داخلها وهي تعد تنازليًا حتى الرقم عشرة قبل أن تزفر ببطء كما دأبت الفعل عندما تحتاج إلى التنفيس عن توترها، لكن لم يحدث شيئًا هذه المرة، ما يزال نبضها يتفاوت صاعدًا وهابطًا كأنها تركب افعوانية مسرعة، وما يزال التنمل الخفيف يرافق برودة أطرافها بينما تشعر بثقل في عضلات عينيها ووخز مؤلم في حنجرتها كلمّا حاولت ابتلاع ريقها واستجمعت بصعوبة أيَّ اجابات مقتضبة على اسئلة الطبيب الروتينية العارضة.

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن