الفصل التاسع "الجزء الأول"

305 10 0
                                    


انحسرت موجة أمطار الصيف الغزيرة التي اجتاحت إسطنبول طوال الأسبوع الماضي وهدأت، وتصالحت عناصر الطبيعة الأربعة المتشاحنة أخيرًا وسكنت، فتنفست الأرض عطرًا مع حلول المساء كأنما تحررت، وعادت النوارس إلى أعشاشها تشدو مترنمّة بعدما غنّت ورقصت، مُبتهجة بتفرق الغيوم الداكنة أقصى الأفق المتقطع بناطحات السحاب والأبنية الشاهقة، التي توهجت أضواءها واشتعلت، حالما لملمت الشمس بقايا خيوط أشعتها القرمزية واختبأت، وجاء الليل، وهَبط كعباءة سوداء، ترصعّها أحجار ماسية متلألئة، مضت تتماوج رواحًا ومجيئًا كسفينة أطلقت أشرعتها وأبحرت عمق محيط مطبق الصمت نحو أبعد ضِفّة وُجدَت.

وسط ذلك السكون الظاهري ـ الهش ـ لمدينة لا تعرف السكينة عادًة ولا يتقن معظم قاطنيها فنّ الكبت؛ تدفق هدير المحركات والعجلات المسرعة فوق الإسفلت إلى جانب صافرات سيارات الإسعاف والشرطة، ونفير المراكب السياحية الضخمة بضوضاء مكتومة، اندمجت بإيقاع نابض واحد، رتيب، لا يعلو ولا ينخفض، بينما سبحت الأبنية ذات المظاهر العمرانية المختلفة ببحر من أضواء النيون الساطعة، ولاحت انعكاسات مصابيح المركبات المتحركة على جسر البوسفور وكأنها نجوم تقطعّت من أديم السماء، ثم سقطت، وتناثرت على نقطة الوصل الممتدة ما بين ضفتيّ الجزء الأوروبي والجزء الآسيوي للعاصمة التأريخية العتيقة، مُشكلَّة بوميضها الساحر خلفية مهيبة، تناغمت مع فخامة القصور المنتصبة عند البحر مباشرة، كشواهد حجرية ناطقة، شهدت في خضم أحداث الزمن وتقلباته العاصفة أبطال ظهروا وآخرون سقطوا، إمبراطوريات نشأت وأخرى انهارت، خرائط توسعت وغيرها تقلصت، وأحلام احترقت بنيران كوابيس باتت واقع حال وتحققت.

كان قصر آل كولماز المهيب واحدًا من تلك القصور العريقة الفارهة التي تتذكر التاريخ تمامًا مثلما يتذكرها، إذ تم تشييده قرابة القرن السابع عشر، وظل شامخًا، رغم ما تعرض له على مر السنين من حوادث وحرائق وكوارث طبيعية، ومحاولات تجديد غيرّت الكثير من ملامحه الأصلية نتيجة أعمال الصيانة والترميم. مع ذلك، ما يزال يحتفظ بسحر العمارة العثمانية المميزة وتلك المسحة الأرستقراطية المتأصلة في أدق تفاصيله، ممَّا جعله يبدو هذه الليلة مثل جوهرة ثمينة لفظها البحر توًّا، واستلقت على البرّ لتلتقط أنفاسها وتستريح، وقد أنيرّت كافة أضواء واجهته المائية المذهلة، وتألقت نوافذه الفرنسية الطويلة بمصابيح ثريات(مورانو*) الفينيسية الثمينة، وتدفقت أنغام الموسيقى إلى الخارج، وإزدانت حدائقه المزهرة بالشموع ومشاعل النار، بينما فُتِحت البوابة الرئيسية المزخرفة الضخمة وشُرِعت لاستقبال الضيوف المتوافدين تباعًا، واحتشدت الباحة الشاسعة بالسيارات الفارهة والسائقين ومجاميع الحرس الشخصيين، لأهم رجال الأعمال والسياسيين.

بدا كل شيء مثاليًا ويوحي بالترف ووزن العائلة المضيفة: الطريق المؤدي إلى بوابة المنزل الداخلية محفوف بالزينة والأضواء المتقطعة، زنابق الماء الوردية الشاحبة تطفو مع الشموع البيضاء على سطح البرك الصناعية وأحواض النافورات الفسيفسائية هادئة التدفق، صف من الخدم يقفون بأطقمهم الرسمية السوداء الأنيقة لاستقبال المدعوين بتهذيب جمّ، وفريق آخر من الموظفات الفاتنات يهتم بمرافقتهم عبر البهو والأروقة العريضة، الأشبه بدهاليز وصالات عرض المتاحف، وصولًا إلى قاعة الاحتفالات ذات الإطلالة البحرية الكاملة، حيث تلألأت الثريات والمرايا البلوريّة وخزائن عرض التحف الزجاجية، وتوزعّت الأرائك المخملية والمقاعد الملكية في الزوايا وقرب النوافذ بطريقة فنية مبهرة، وخصص الحيز المتبقي لطاولات العشاء المستديرة، المغطاة بشراشف ساتان مزخرفة اكتظت بأدوات المائدة والشمعدانات الذهبية وتنسيقات الجوريّ العطرَّة.

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن