الفصل الثامن عشر - الجزء الثالث

265 10 5
                                    


لا ريب أن ماروس كان قد توغل في تجواله على الشاطىء زمنًا طويلًا دون أن يدري، قدماه تئنان كعجلات مركبة صدئة تحت رحمة قائد أهوج، أنفاسه تهدأ لدقائق قبل تسارعها مجددًا، كل عضلة بجسده مشدودة ومتصلبة وهو يسير بلا هدى، وبين الفينة والأخرى يركل الحصى الأبيض أسفله بعنف مشكلًا حوله زوبعة صغيرة من الغبار.

رغم بهاء الأمواج الفيروزية المتلاطمة على صفحة الشاطيء وانصهار الشمس في كبد السماء كزهرة النار الوحشية لكن لم يصادفه منظر يشده حتى يتطلع إليه، ذهنه شارد، ظلال الظهيرة تعبث بأعصابه، معزوفة البحر الثائرة تستفزه، دمه يغلي، وقطرات العرق تتلألأ على وجهه، نقيض احساسه بأن نخاعه متجمد، وما فتئت الوساوس الخبيثة التي زرعها ديتروف برأسه تتفجر وتفيض ثم تزحف فوق جلده، تخزه بشدة كأنها ملايين الإبر، تخترق عقله مثل شفرة حادة، تجعله يدور في حلقة مفرغة، تاركًة سنابل السخط تنمو داخله، وقمح الهواجس ينضج، بينما تتدفق شلالات الذاكرة من خلف سدود العناد والعقلانية والفلسفة السيريالية أمام حلم مذهل البساطة وفائق الصعوبة ذات الوقت، ريثما غدر به التشتت أخيرًا، وأخذته قدميه إليها مباشرة، بعدما باتت لأفكاره صيغة مادية، ترمقه بنظرات شامتة، تخنقه بأصابع قاسية، وضحكاتها العصبية الهازئة تنهش صدره، وتهدد باغتياله في ما إذا لم يهرع نحوها، لعله يسترد توازنه المسلوب ويهدأ.

صحيح أن ذهابه إليها وهو بهذا التخبط يُعد فعل خطأ وفق قوانين العقل والمنطق، ولكن مواصلة التهرب من المواجهة خطأ أيضًا، وعليه الآن اختيار الخطأ الأقرب إلى حقيقته وضميره. كان كمن عليه أن يختار بين الموت غرقًا في البحر أو حرقًا في الصحراء، فاختار الموت اليانع عوض الموت القاحل، آثر مصارعة أمواج الرغبة على مجابهة عصفات الندم، وقرر مسايرة العاصفة بدل البقاء ساكنًا في قوقعة الأفكار المُدمِرّة، وقد صار أمام الصور المستقبلية السوداء التي رسمها له العجوز الماكر بحاجة إلى بصيص من الوضوح، إلى مواجهة ساطعة مع نفسه، تتيح له اكتشاف منابع الضوء بدل الدوران في دوامة العتمة، بانتظار إيقاد شمعة أمل ذابلة، تزيد من تشتته، وتطيل أمد عذابه، دون أن تساهم في إلغاء أسبابه أو التعامل مع مشكلته.

هكذا سار عائدًا أدراجه، وكل الأشياء والتفاصيل الذائبة تحت أشعة شمس الظهيرة اليونانية الحارقة تبدو كأنها تكافح للاحتفاظ بمعالمها كي لا تتلاشى أمام سطوة الحُزّم الذهبية المتوهجة. شيئًا فشيئًا، سكنت الريح تمامًا أثناء توغله في متاهات الحدائق الشاسعة، اشتدّت الحرارة، وتحوّل الهواء الساخن إلى سياط من اللهب ممَّا جعله يعاني لالتقاط أنفاسه، لكنه مضى إلى غايته كأنما سيكون مصيره من دون بلوغها الهلاك، ولم يدرك بعدها أنه كان قد قطع مسافة كبيرة، حتى اعترضته بوابة بيضاء مزخرفة ذات مزلاجين، تفضي نحو ممَّر مرصوف بالفسيفساء الملونة، وتعلوه قنطرة مقوَّسة، تزينها تعرشات اللبلاب الخضراء وداليات العنب.

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن