الفصل السابع "الجزء الأول"

158 10 6
                                    

انتصف الليل، وما زالت الغيوم المتلبدَّة في سماء اسطنبول تتكثف، وتزداد ثقلًا جعلها تتوقف عن الحركة تمامًا، بعدما كانت تسير الهوينى طوال النهار، مثل مناديل وداعٍ بيض تمضي بها الريح مع أيديها المسافرة، سقطت، مع المدينة، صريعة أمام برد الصيف. حيث تفجرت الأمطار بغزارة، ودوىّ صوت الرعد، واخترقت سهام البرق الفضيّ المخمل الأسود، وهذت الرياح في شقوق النوافذ والقرميد الأحمر، وبدأت تصفر كأنشودة حرب ردَّد البوسفور الساكن صداها، بنشيدٍ مسحور يقدر على أن يشد أشرعة السفن الصغيرة ويمزقها.. يغرقها..ثم يسحبها إلى القاع ويحطمها، بينما تضرب الزخات العنيفة كقرع الطبول فوق سطح البحر، الشوارع الإسفلتية، جدران الحجر العتيقة، وناطحات السحاب الفولاذية الحديثة. كأنما أطلقت الطبيعة الأم العنان لنفسها ولأهواء عناصرها الأربعة، وراحت تستعرض طغيانها الفريد، عصفًّا ومطرًّا وظلمة، تارًة تحنو وتلتقط أنفاسها، وتارًة أخرى تهاجم بضراوة، مبددة بذلك المعالم العمرانية الواضحة التي تماهت، وامتزجت، أسفل غلالة مائية مخادعة الشفافية، جعلت المشهد يبدو أقرب شبهًا إلى لوحة سيريالية رسمها فنان مزاجيّ، كلما وضع لونًا عاد ومسحه، إلى أن اختلطت الصباغ وضاعت الحدود، ولم يتبقَ منها شيئًا سوى لطخات بيضاء متفرقة، لمعت كالماس وسط المساحات الرمادية الداكنة.

كان النور يشع من كل شيء، ينبعث من ظلال البنايات ويحفها، ينز من أغصان الشجر، يتكثف عند الميناء، ثم يعاود الانتشار مجددًا، حتى المركبات في الأسفل بدت كأنها هياكل حيَّة تتحرك في العتمة كأقمار منيرة تواطئت مع المصابيح الوامضة والنجوم الراعشة ضد وحشة الليل وشراسة المطر، لكي تؤدي رقصة انعكاسات الضوء الأزلية عبر النافذة أمام نظرات ماروس، الذي صاغ من صمته سلاحًا، ومن قسمات وجهه المكفهرة سهمًا لقوسه، ومن قبضته المضمومة إلى جانبه حجرًا لمقلاعه، وهو ينأى بنفسه عن المحيط حوله كنفق مهجور، تاركًا الظلمة تخترقه باجتياحها الطاغي، تلفه من كل حدب وصوب، تتغلغل إلى أعماق روحه، وتشرنقه بالكامل، لعلها تعيد تعقله وتخمد ثورة دمه وأنفاسه، أثناء تحديقه الشارد بالفراغ، دون أن يرى شيئًا حقًّا، وقد طغى الضجيج داخله على بقايا يقظته، وشتت تركيزه. ضجيج لم يستطع السيطرة عليه أو الهرب منه، ضجيج بدا مثل سلسلة انفجارات لأصوات متداخلة وحادة جعلت خلاياه الذهنية تكاد تنفجر، كأن قلبه بات يخفق خفقات حديدية تُصدِر الصرير، وجدران شرايينه تصفق مثل الصَنْج، وزفراته تهدر مثل محرك قطار بخاريّ عتيق، يخترق صحارى شاسعة وميتة، ركابه لا يعرف بعضهم البعض، وكل منهم يتحدث لغة مجهولة لا يعرفها الآخر، ولا أحد يدري إلى أين يمضي، ومِن أين أتى!

فلا شيء أقسى، وأكثر صدمة، من أن يجهل رجل أربعيني، خاض عشرات الحروب ومئات غزوات الجسد مثله، كيفية التعامل مع طفلة ساخطة تذبحه بأنوثتها، وأنثى ناقمة تغتاله وتجهز عليه بعنادها وطفولتها.

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن