الفصل الثاني عشر "الجزء الأول"

149 7 0
                                    


ما الحياة إلا مسرحٌ كبير، وما الناس إلا ممثلون

«William Shakespeare»

لا ينفك كلُّ إنسان، في هذه الحياة، يُصارع أمواج أسئلتها طوال عمره الفانٍ، بكلمّا يمتلكه العقل من مُخيلَة، ويعرف كيفية نطقه اللِسان، حتى إذا اقتضاه الأمر أن يطلب شهادة حق أوّل نيسان ويقتنع بالزور والبهتان، نراه يسير على دروبٍ مرصوفة بحصى الشك، يتعثر، فيتقهقر، ويأخذ سِمة الجبان، أو يعاود النهوض بعد أي كبوة ويواصل ببأس القادة الشجعان، يخوض معاركٍ ببسالة جندي يشهر سيفه بوجه الإنس والجان، تزيده بعض الأخطاء والذنوب صوابًا، وبعضها الآخر يثقل كفة الميزان ليربح الشر الرهان، وبين كل هذا وذاك، تزداد أمامه علامات الاستفهام ـ بعيدًا عن مفاهيم الانتقام والغفران، فأمّا أن يقهرها ويُلهَم الأجوبة الشافية ليصل أخيرًا إلى برّ الأمان، وإمّا أن تستهلكه الأسئلة، وتفر منه أجوبتها هاربة كحصان، فينتهي به الحال محطمًا فوق صخور شواطىء الضياع والحرمان.

بيد أن سيفرينو اتخذ هذه المرة طريقًا قلَّ سالكوه: إذ اختار ألا يخوض بحر الأسئلة كثيرة الدهاليز ومحتمّة التوهان، أن يعتزل صراع الجبابرة ويكتفي بالمشاهدة كمتفرج صامت تعتريه مشاعر خيبة الأمل والخذلان، يعيش اللحظة كما هي دون الغرق في دوامة الهذيان، أن يتبع منهج الحياة الأعظم، عبر الاستمرار في اللعب كيفما اتفق وأن يسلك الدرب السهل دون أن يُعسّرَه أو يحلله، ثم ينتظر النتائج مثل مقامر وضع الرهان، ليس لأنه قنوع وراضٍ بالوضع المفروض عليه أبدًا، إلا لأنه كان يؤمن بأن بعض أسئلة الحياة لا أجوبه لها، وإن وُجدَت، فأنها لن تعدو كونها أجوبة نسبية وغير متفق عليها، قد يُكرَم المرء العادي من أجلها، أو يهان، وتقذف قضيته إلى مجاهل النسيان، أجوبة ربما تأتي على شكل إشارات أو مصادفات قدرية لأي شخص ثانٍ تعطف عليه السماء وتحنو الأزمان، لكن ما الذي سيحدث حقًّا مع غجري مثله لا يملك ذرة يقين أو إيمان؟ خطَّاء أزليّ باع روحه إلى الشيطان بأبخس الأثمان؟ عاشق يائس بات يشعر أن روحه وكيانه ملعونان؟ وظل رجل نصف قلبه في البراري ونصفه الآخر مع حبيبة صديقه، الغارق بعشق امرأة خطِرة تملك دهاء الثعلب، وأنياب مسمومة كأنياب الثعبان؟ صدقًا، غالبًا فأن الجحيم ذاته سيطرده ولن يرحب به بذراعان مفتوحتان!

كانت الأفكار تدور بعقله مثل شفرات مروحة قاطعة الجوانب وهو يقف مثل نغمة نشاز، ضيعّت سُلمها، على شرفة شقة أليكسي كاشفة الإطلالة، نظراته الخضراء مسلطة على شاشة هاتفه النقال، تيارات الهواء الدافئة تحرك أطراف شعره الطويل المنسدل حتى بداية كتفه، وتلسع أثناء مرورها الثقيل بشرته السمراء كأنها سياط حامية، بينما يرشف الجرعة تلو الأخرى من كأسه كمن يحتسي ماء النار، ومع كل قطرة يبتلعها تتزايد نقمته على صديقه النرجسي الأرعن، الذي بات يتصرف في الآونة الأخيرة مثل طارد أرواح مجنون يعتزم حرق مارد يمتلك قوة خارقة تجعله عصيًّا عن الإبادة، لكنه يواصل عبثًا تحضير جرعاته الفاشلة وقراءة تعاويذه، لعله يشحذ أوتاره الداخلية، ويضبط ايقاعها، ويشحنها بخليط الحب والكراهية المميت، قبل أن تتطابق موجات شحناته السلبية مع قوىً كونية متماثلة، تمكنه من اطلاق لعنته السوداء على العالم أجمع.

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن