الفصل الثالث عشر"الجزء الثاني"

221 8 0
                                    


كانت فلورنسا في الماضي مُحاطة بسور شاهق الارتفاع يفصلها عن باقِ مقاطعات إقليم توسكانا الإيطالية بجدران حجرية مع فناء صغير، تتصدر مدخله الرئيسي حاليًا ساحة عشبية مستديرة يتوسطها تمثال رخامي حديث، مثير للجدل، للفنان المعاصر(بيستوليتو*)يصوّر امرأة تخرج من المدينة وهي تحمل فوق رأسها رزمة كبيرة، بينما تسير بعيدًا عن بوابة بورتا رومانا التي بُنيت في أوائل القرن الثالث عشر بمدخل مركزي كبير للعربات وأبواب جانبية أصغر لدخول المشاة، واشتهرت لكونها موقع مهرجان(فييرا دي كونترانتي)؛ حيث كان الآباء يقومون بعرض بناتهن اليافعات للزواج ضمن مهور عالية.

وفي حين دُمّر السور القديم منذ قرون، ولم يتبقَ منه إلا الأنفاق المقوّسة الممتدة عبر حصن المدينة العابقة بسحر التاريخ، إلا أن البوابة الرئيسية ـ المصنوعة من الآجر الصخري كحاجز بارتفاع خمسون قدمًا ـ ما تزال قائمة حتى هذا اليوم، والبابان الخشبيان اللذان يشكلانها مفتوحان دائمًا في وجه حركة المرور المتدفقة تباعًا نحو مركز عاصمة الفنون الرائعة ومَهد انبثاق عصر النهضة الأوروبية.

بعيدًا عن الشوارع الرئيسية السابحة بنور الشمس، وأزمة المرور النهارية المعتادة، واكتظاظ السياح في شوارع التسوق، وأزيز محركات سيارات الفيراري الباهظة المتمركزة في جادَّة ميكافيلي ذات الانعطافات المتعرجة الواسعة والمقاهِ الأنيقة، بدا طريق المُشاة الممتد من الشرق إلى الغرب عبر حدائق بوبوليّ الشهيرة رائع الجمال، لا بل ملكيًا تقريبًا، وقد شكلت أشجار السنديان الضخمة الموزعة على الجانبين قنطرة طويلة أخاذة تم تشذيب أغصانها الخضراء الوارفة لتبدو مثل مظلة متشابكة تؤلف نفقًا ظليلًا يؤدي مباشرة نحو قصر(Palazzo Pitti)العريق، الذي كان مقر دوقيّة أسرة مديتشي الحاكمة لمدة ثلاثة قرون، ليصبح أحد الشواهد على تاريخ عائلة متنفذة بات اسمهم لوحده رمزًا لفلورنسا بعدما جمعوا ثروة طائلة وتمتعوا بنفوذ سياسي هائل أسفر عن انتاجهم أربعة بابوات، وملكتين لفرنسا، وأكبر مؤسسة مالية في أوروبا بأكملها.

ومع أن القصور الرسمية قبل عصر النهضة كانت تُشيّد تلقائيًا على أرض مرتفعة؛ فيضطر كل من يقف في الحدائق إلى النظر للأعلى لرؤيته، غير أن القصر كان مبنيًا على منخفض قرب نهر آرنو، ممَّا يجعل الموجودين في الحديقة المملوءة بالتماثيل والنوافير وأحواض الورود وأزهار السوسن ينظرون إلى الأسفل لمطالعة القصر ذو الزخارف الخارجية المعقدة والنوافذ المغلقة والفتحات المقوّسة، بتأثير دراماتيكي غير مألوف للعيان، وكأن أطنان الحجارة الضخمة قد تدحرجت أسفل الجرف وتكومّت على شكل حصن قوي من بناء الطبيعة.

معطلة الحواس، مخدرَّة، مأخوذة بسحر المدينة وافرة الجمال، أغمضت ساندرا عينيها اللامعتين كأسطح المرايا لوهلة واستنشقت ملىء رئتيها الهواء العابق برائحة الورد الشذية وهي تصغي إلى سيمفونية الصباح المتناغمة بينما تترنم العصافير وتشدو حولها بتلك المقطوعة السحرية الخالدة التي لا يلتقطها إلا العشاق عادًة لتصب في آذانهم المصغية أنغامًا عذبة شجية، تتمدد لها دقائق الفضاء وتهتز بارتعاشتها بواطن الأرض.

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن