"ليست المسألة كم تحب الشخص حين تحبه، وأنما كم تحبه حين تكرهه."
«Ashton Kutcher»
تمر في حياة كل إنسان، أحداث ومواقف عصيبة لا رغبة له في أن يستعيدها أبدًا، يؤلمه استحضارها، تغتاله تفاصيلها، يتذكرها مثلما يتذكر السجين المعتوق جدران زنزانته الصمّاء وسواد القضبان الصدئة، ويتمنى لو استطاع أن يمحوها من تاريخه كأنها لم تحدث قط، فيسعى إلى طمس الوقائع، يلتف حولها، ويحاول عبثًا أن يتخطاها ويتجاوزها بأي ثمن، كي لا تتجسد على ملعب الدهر الشامت نظير مأساة اختبرها؛ تنشدها الأيام كأغنية شجيّة حزينة، وتحفظها ذاكرة الوجع الأبديّة كغصّة.
لكن المرء لا يقدر على أن يمحو وجود ذكرى، ولا قدرة له على أن يتجاهل تأثيرها لمُجردّ أنها أصبحت شيئًا من الأمس، طالما ستبقى ثمة هناك لحظة مُعينة، لحظة استثنائية، لحظة حاسمة، تسقط فيها كل الأقنعة، ويعود بعض التائهين، الذين ابتعدوا كثيرًا عن ذواتهم، إلى أنفسهم، ويتذكروا أدق التفاصيل، بينما تطفو على صفحات المخيلة الشاردة ذكريات ساعات الأسى والحزن إذا كانت محزنة، وذكريات أوقات الصفا والسعادة إذا كانت مفرحة، فتملأ الأضلع لوعة ملتهبة تجلب الشقاء، أو تأخذ بمجامع القلب، فيرقص طربًا.
أشياء كثيرة قد تدفع الشخص البالغ للوصول رغم إرادته إلى تلك اللحظة المفصلية، مشحونة الانفعالات، أشياء مختلفة، متشابهة ومتناقضة، مترابطة ومنفصلة، تجبر العقل على التذكر، وأحيانًا تدفع اللحظة ذاتها الذكرى لأن تميط عن لثامها، وتظهر وجهها، لتهجم بشراسة حيوان مفترس، تشق زمجراته الصدر كالمخالب، وتفتح فيه ثقوبًا، تتردد أصداء الذكريات عبرها قسرًا، فتعتصر القلب والروح، وتتسابق الآهات والدمعات، كما لو أنها صدى صرخة متقنة الاخفاء في ركن مهجور من النفس.
وبالنسبة إلى اريانا، فقد داهمتها تلك اللحظة القاسية وهي ترزح تحت ثقل الغشاوة التي تفصل بين النوم واليقظة، كأن الذكرى تصر على انتشالها من أرض النسيان كلما أغرقها النعاس، والهواجس تدنيها من حافة الجنون كلما حاولت النأي بأفكارها بعيدًا عمَّا يؤرقها ويقض مضجعها ويبيد السطور من صفحات تعقلها حتى بات ذهنها مجرد ورقة مشوهة، خالية، إلا من نقاط سوداء، مضت تتساقط أمام عينيها الدامعتين أثناء اصغائها بلا تركيز إلى أزيز المحركات الرتيب للطائرة التي ابتعدت بهم أخيرًا عن جحيم سان بطرسبيرغ.
كانت مستلقية جزئيًا على مقعد منفرد بعيد، بدا مثل مكان ضائع ومتوحد، احتواها ومنحها خلوة صامتة، بينما تسند رأسها إلى إطار النافذة: غطاء من الكشمير الرمادي الناعم يلفها، شعرها الكستنائي الداكن يتناثر حول وجهها بفوضوية، شحوبها يحاكي شحوب الأموات، ونظراتها الدخانية المنطفئة زائغة، عديمة التركيز، وتكاد تكون جامدة وفاقدة للحياة، تشعر أن في تلك الأصوات المتفرقة حولها قوة تهزها باهتزازات كهربائية فصلت ذاتها عن ذاتها، حتى طارت روحها سابحة في فضاء لا حد له ولا مدى، لترى الراحة حلمًا صعب المنال والجسد سجنًا ضيّقًا، ولم تعتقد عندما استيقظت في المستشفى هذا الفجر أن الذكرى ستكون أقسى من التجربة حد ذاتها حالما تستعيد توازنها وتتمكن من التفكير مليًّا بما واجهته مساء أول أمس، وما فتئت المشاهد تهطل عليها تباعًا بتسارع فظيع وتفاصيل تحتاج عادًة إلى مقدمات طويلة وتفسيرات يقبلها العقل.
أنت تقرأ
{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984
Romanceسيمفونية الجليد والنار الجزء الثالث سلسلة اسرار خلف أسوار القصور كتابة وتأليف: Noor 1984 تصميم الغلاف والقالب الداخلي: Gege86 دار نشر منتديات شبكة روايتي الثقافية - قلوب أحلام الغربية https://www.rewity.com/forum/t478760.html روايات غربية بقلم noor1...