الفصل الرابع عشر "الجزء الثالث"

244 10 17
                                    

تصاعد النسيم مُشبعًّا برائحة الزهور الاستوائية والعُشب النديَّ، وسرَّت رعشة في أوراق الأشجار المُعمرة الشاهقة، وثمة طيرٌ زقزاق بريَّ دارَ في الأعالي وهو يصدر أصواتًا عالية أثناء ابتعاده ليلحق بسربَّه المُسرِع باتجاه عُزلته الليلية ما أن بدأت شمس الأصيل تنحدر تدريجيًا، مُتأهبة للمغيب عن سماء أثينا المُتشِحَّة بألوان الغسق القرمزية، بأطيافٍ ودرجاتٍ نحاسية وحمراء مُذهبَّة، تداخلت مع الأمواج اللازوردية المتألقة واخترقتها مثل مجموعة سهامٍ طائرة، سريعة، مُريَّشة بالظلام الذي بدأ يتسلل ببطء مدروس ليغزو أفق مدينة الأساطير الإغريقية العريقة.

بدا البرِّ المواجه لقصر كادريوفسكي المُطِلِّ بعيدًا بحيث أنه ما من بُنيان معماري أو هيكل مُعيَّن يمكن للناظر من الطرف المقابل تمييزه جيدًا وقد توهجَّت مصابيح الإنارة المُرتصَّة على امتداد الساحل وتلألأت بوميض عابث، طائش، مافتىء يجوب الأرجاء مُترنحًّا كسلسلة ضوئيَّة مُتصِلَّة مضت تراقص الأمواج المتكسرة على الشاطىء في الأسفل، بينما تضرب موجة المدِّ الأخيرة الرمال والصخور المتفرقة وتسقط فوقهم بارتجاجٍ طويل واحد، كجدارٍ سميك من الزبَّد الفضي معدنيَّ الانعكاس.

كان الممَّر الطويل المؤدي إلى الحدائق الغنَّاء يمد أقواسه الصهباء المتلوِّنة إثر الغروب بعيدًا جدًّا ليكشف في نهايته وبشكلٍ غامض وساحر أُفقًا من الهضاب الغارقة في السديم المُزرَقّ والضباب المسائي؛ وفيما هو أبعد من ذلك يمتدّ المشهد الآخاذ متدرجًّا حتى شاطىء البحر ليبدو مثل لوحة زيتية مرسومة بإتقان عبر النافذة الفرنسية العريضة لغرفة معيشة الطابق العلوي الأنيقة في القصر حيث وقفت إينور ساهمة، معقودة الذراعين، حواش تنورة ثوبها الأزرق عارِ الكتفين تتمايل مع نفحات هواء الصيف العليل المتدفقة من خلال بوابة الشرفة المفتوحة جزئيًا، أطراف شعرها القصير تتأرجح مع أقراطها الكريستالية عنقودية الشكل فوق منحى كتفها الأبيض، والزجاج المُظللّ يرسم انعكاسات وجهها المُعبِّر الجميل خالِ الزينة وهي تحبس أنفاسها ترقبًّا، مبهورةٍ كطفل نالَ وحده فرصة مشاهدة ظاهرة الغروب الآخاذة، كأنها لم ترَ نفس المشهد ألف مرة في حياتها مسبقًا.

لقد راقبت آخر لحظات أفول الشمس التي لوَّحت مُودِعَّة قبل أن تغوص في البحر حاملةً معها أسرار النهار المُخبئة، ريثما تقدَّم الظلام شيئًا فشيئًا، طاغيًا بسواده الحالك على تموجَّات الأفق، مُغطيًا أطلال البنايات البعيد، والروابي، والأشجار، وملامح حديقة القصر، وحوض السباحة الضخم، مثل أمواج تتلاطم على جوانب سفينةٍ غارقة، ليغمر الممرَّات الداخلية المرصوفة والمقاعد البيضاء الأنيقة، مُشكِّلاً حول تماثيل آلهة الأولمب والنوافير الرخامية المنتشرة أسفلها دوامَّة مُنفردة، سرعان ما أحاطت كلَّ شيء؛ لتمحي ظلال الزوجان العاشقان اللذان كانا يلتصقان فوق أرجوحةٍ تظللها شجرة دردار ضخمة مُتفرعَّة الأغصان.

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن