الفصل الخامس عشر

318 10 13
                                    


بدا النهار واحدًا من تلك النهارات الصيفية المشرقة المعتادة كثيرًا في أثينا، حيث تتخذ الشوارع المكتظة والأحياء السكنية والمباني العصرية والأطلال التأريخية القديمة، من خلال بريق وشفافية الهواء، ألوانًا خرافية تمنح للرائي انطباعًا بأنها تنتمي إلى عالم الحلم أكثر من انتماءها للواقع، بدلالة أن كلَّ سائح عابر شاهَد منظر الشروق والغروب في موطن أساطير الإغريق بتمعن، ولمَح ذلك التدفق الضوئي السخيّ المجبول من الذهب واللازورد، ما فتيء يشعر بالحنين الغامض إليه حال مغادرته، وتذكَّر كيف تعود العاصمة إلى الحياة بعد سُبات الليل الهادىء لتلوح بتفاصيلها الأخاذة تحت أشعة الشمس القوية، كيف تشمخ الجبال في خلفية المشهد راسمًة بقممها الأبيِّة حزوز باهتة: زرقاء ووردية وبنفسجية ذات سمرة ذهبية متألقة، وكيف يتكثف في الأفق البعيد خلف المتوسط عميق الزرقة ضباب رقيق لا يكاد يُلمح عبر الضوء الساطع؛ يؤطر سفوح المنحدرات، ويتخللها مثل نُدّف الغيوم التي تظلل الذُرى العالية.

كان المنظر عبر نوافذ الطابق السادس عشر لمستشفى (Hygeia) الخاص، والكائن في شارع (Marousi)، أحد أكثر المناظر إدهاشًا في العاصمة نظرًا لتمركزه وسط المدينة الحيوية؛ فالقفزة المفاجئة من حداثة الحاضر إلى عراقة قرون خلت تدهش حتى أكثر الأذهان بلادة وسطحية والأقل قدرة على التركيز وتقدير المواقف، مثل فوفو، الذي لم تتوقف شهقات إعجابه وثرثرته وهو يلتقط بهاتفه النقال الصور الذاتية ويُسجل مجموعة لا تُعد ولا تحصى من المقاطع المرئية كما لو أنه خضم جولة سياحية وليس في غرفة انتظار المشفى حيث قضى الجميع ليلته تقريبًا إثر إغماء اميرالد المقلق ونوبة جنون مكسيموس بعدها.

تنهد ماروس زافرًا بضيق ونزق مُدخن مدمن يعاني أثار انسحاب النيكوتين من جسده المشبع بالسموم، وعادَ بظهره متصلب العضلات للوراء، مُسنِدًا رأسه إلى حافة الأريكة الجلدية الوثيرة، يشعر بأن دماغه على وشك الانفجار من قلة النوم وحاجته الماسة للتدخين، والتنفيس عن كبته قليلًا.

ضغط باطن راحته على معدن مسند المقعد شاعرًا بالبرودة تتشابك مع يده في عناق مألوف، فكلاهما وحيد، كأنهما موجودان في المكان فقط كنتيجة لغياب شيء آخر أكثر صخبًا وحيوية. ثم أغمض عينيه وغاصَ في بحر أفكاره العميق، منعزلًا بصمته المطبق عن كلما يحيط به لدقائق سرقها خلسة من الزمن، عله يتصالح مع العاصفة المندلعة داخله ويُخمد زوابعها لتصفو سماء روحه المضطربة ويستطيع التركيز.

كان قد سئم من مواصلة ذرع الممَّر رواحًا ومجيئًا والخواطر المؤلمة تفيض من جوارحه ليلة أمس، على أمل أن تنتهي إينور من جلستها الطويلة، والمريبة قطعًا، مع اميرالد، لعلهما يتحدثان بهدوء وعقلانية طالما أخذ وقته لاسترداد أنفاسه وحان الوقت لمواجهة أنهما باتا متزوجان مهما كانت حيثيات ارتباطهما،

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن