الفصل الثالث

420 12 2
                                    

''هذا هو الموضوع الذي يشغلني أكثر: الحب، فقدان الحب، موت الحب، والألم الناجم عن فقدان الأشياء التي نحن في أمَس الحاجة إليها.''

‹‹John Cassavetes››

* * * * *

يُقال أن للفراق، كما اللقاء، أوجه مختلفة متعددة الأطياف والألوان.

سيمفونية كونية لا تسمعها الأذان، تعزفها أوركيسترا الحياة على آلات وترية تعجز عن ادراكها الأذهان. ترتفع فيها تارّة، وتنخفض تارّة أخرى الذبذبات والألحان.

نغمة دراماتيكية تصيب سامعيها بنوع شائع من الذِهان.

معزوفة إنفعالية صاخبة يعزفها الكون مثل موسيقار يحترف استخدام الوتر وآلة الكمان، لتروي قصص فراق يحث العشاق ويبقيهم على اشتعال في كل حين وآنٍ، وآخر بارد، قاتل اللامبالاة والصمت، تُنقَش حروفه الخرساء على سجلات النسيان. فراق يغتال ثقة المرء ويجرفه نحو بحور الأحزان، وفراق يُعلِم مفارقه أن الحياة ترسم أكثر من طريق أحياناً لمستقبل الإنسان.

فراق يعجز البعض عن تقدير فاجعته ـ تماماً مثلما يُساء تقدير مخاطر الإدمان، وفراق لا يبدو كأنه نهاية العالم، بل بداية نهاية أوهام، أتى لرحيلها أخيراً الأوان.

فراق يُعزز النفوس قوة ينتزعها من أعماق صحارى اللوعة والحرمان، وفراق لا يفارق صاحبه ويتلبسه كما يتلبس البشر الجان حتى تختلف المعايير وتختل كفة الميزان. فراق المترفعين عن الأذى، والآخرين الذين لا يقبلون بعده بأقل من دمار الطرف المقابل، رافضين الرحيل بمعروف وإحسان، فيصبح التحطيم مأربهم بعد خسارتهم الرهان. فراق ماكر يُساكن مبتليه فيتشبث به مثلما تتمسك الشعوب بالأوطان، وفراق ساخر يفر الناجين منه كمّن هرب من محتل غاشم كشر عن أنيابه وبدأ في الاستيطان.

فراق لا يتوقف دمعه عن الجريان، وفراق يشبه بعذوبته ترانيم الرهبان..

فراق للرجال وفراق للأنذال الذين يستهويهم الأذى كأنهم نائب للشيطان!

فراق يفرض نفسه بلا استئذان، وغيره يفضح كل كذبة قيلت بالبهتان.

فراق قد تتعدد أسبابه وتبعاته، لكنه يمتلك دوماً اجابتان، تشكلان خطان متوازيان لا يلتقيان. لأنه سيبقى ضيف ثقيل ويمتلك عادة وجهان، هذا ما لا يختلف عليه طرفان، مهما ارتفع مده واجتاح الأنفس كطوفان يزلزل الكيان. الجميع في النهاية يختبره، بكافة ما يحتويه من حِكم ومعان، وكل ما يحتاجه الذي يعاني رهابه هو النظر إلى الصورة الأكبر، والأكثر شمولية، والقليل من الإيمان، واضعاً في الحسبان أنه لا يعدو كونه تحدٍ آخر ـ لا يقبل النكران ـ تضع الأقدار اختباراته القاسية دون الأخذ باعتبارات الوقت المعروفة والمكان، طالما يعشق وضع البشر بين المطرقة والسندان، ويأخذهم إلى حيث تسقط الأقنعة تباعاً، ويواجه المجني عليه الجان، ويُكرَم المرء أو يُهان.

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن