الفصل الثامن عشر - الجزء الثاني

151 4 2
                                    


للضوء ميزة تبديد الانزعاج الذي تسببه الرؤى الليلية، ذلك أنَّ أرواح الكوابيس المستاءة تهرب خافقة بأجنحتها الغشائية، وتتلاشى حالما يطلق النهار نِباله الذهبية عبر فجوات الظلام، فيطغى النور على العتمة، وتحلق الطيور وترقص الفراشات، بينما يكشف خط الأفق الطويل عن تدرجاته البنفسجية ويرتسم شيئًا فشيئًا بخطوط وكثافة لونية أوضح على لازورد السماء.

كان الطقس يتوهج بالحرارة كالعادة أثناء فصل الصيف في سانتوريني؛ البيوت والكنائس البيضاء ذات القِباب الفيروزية المميزة تلمع وتتألق بشدة، وأساساتها تضرب عمق اليابسة الداكنة، فبدا مركز المدينة كما لو أنه حورية بحر ناعسة تسترخي على ضفة القوس البركاني، الأمواج الزرقاء تنتشر في طيّات واسعة فلا تتمكن من محو أثر المَخْر الذي تخلّفه السُفن وبواخر النقل الكبيرة، ليشكل الدخان البخاري المتصاعد عبر مداخنها غيوم السماء الصافية، قبل أن يتبدد ببطء في نُدَف من القطن الخفيف سرعان ما تذوب وتتلاشى في أحضان الأشعة الساطعة، أشرعة بعض زوارق الصيد العائدة تنساب فوق الزرقة الملساء مثل بجعات بيضاء يطيّرها النسيم، وفيما تؤرجح الشمس الملتهبة كزهرة نار وحشية ألوانها معدنية الانعكاس، كانت شفرات دواليب محركات المراكب العائمة تكد هائجة في سعيها المحموم وتنثر الزبد الفضي على سطح الماء بنشاط بهيج كأنها تتوق سرَّا إلى أن ترسو أخيرًا في المرفأ وتستريح قليلًا.

تأمل ماروس تفاصيل الجزيرة البركانية الساحرة وهو يستند على حافة سور الشرفة الأبيض، بيده كأس من عصير البرتقال المثلج المخلوط مع الفودكا، وفي الأخرى سيجارة مشتعلة مضى يدخنها وينثر رمادها بعدم اكتراث فوق تعرشات الجيرانيوم الوردية المتسلقة على واجهة المنزل الخيالي، تاركًا دفقات هواء الظهيرة الحارَّة تبعثر شعره الأحمر الكثيف وأطراف قميصه القطني البارد، قبل أن تصطدم بجمود وصلابة ملامح وجهه المكفهر، وتجبرها نظارة الشمس السوداء الداكنة على تغيير مسارها قسرًا والانحراف بعيدًا عن عيونه الذهبية الحانقة أسفلها، بينما يصغي بصمت، تام ومطبق، إلى صوت ستيفانو الأتي عبر سماعة الاتصال الملتصقة بأذنه.

ثلاثة أيام مرَّت منذ نفاه مكسيموس حرفيًّا إلى هنا وهو ما يزال يستشيط غضبًا، بل يحترق، حذِر من التوهم بأن إشعال شمعة واحدة خيرٌ من لعن الظلام ودحره إلى الأبد، يدرك أنه قد اختار إرساله إلى هذه الجنة الخلابة تحديدًا كمناورة نفسية ماكرة لها فعل أبرة التخدير، بحيلة جهنمية بدت أقرب إلى مَنْ يريد مداواة مرض عضال بقرص فيتامين، أو يعطي جريحًا قرص(فايكودين)لكي يتخدر وينزف دمه كله قبل أن يصحو، دون أن يضمد له جراحه أساسًا.

فداخله بركان يتوق لأن يثور معربدًا بجنون ويكتسح بمده الدموي اللاهب كل شيء يعترضه، يريد معاقبة الجناة، الاقتصاص ممَّن خانوا وتآمروا وغدروا، ممَّن باغتوه وطعنوه في الظهر، ممَّن سفكوا دماء رجاله، ثكلوا أمهاتهم ورملَّوا نساءهم ويتموَّا أطفالهم، ممَّن أرادوا قتله، وكادوا أن يؤذوا إينور ويسلبوها شرفها أمام عينيه بكل سفالة ووقاحة وخسة أصل يمتلكونها.

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن