الفصل الرابع"الجزء الأول"

367 12 4
                                    


ازداد النهار الصيفي قيظًا، وزحفت قطع خجولة من السحب بلون القطن عبر السماء، ثم انسلت بعيدًا، مثل سلحفاة تتثاقل في مشيتها، حتى توارت خلف حجاب شمس الظهيرة التي ارتفعت إلى سِمتها الأعلى أخيرًا، لتزخرف الساحل اليوناني جنوب بحر إيجة، وتغمر أرخبيل كيلاديس بالضوء، حيث شمخت جزيرة سانتوريني، مرتفعة على سلسلة صخور عالية، تقيها قسوة الأمواج العاتية.

لم تكن شمسًا تستطيع العين النظر نحوها مباشرة أبدًا، بل كتلة لهب متأججة، مضت ترسل سهام من نور متوهج أعطى لكل شيء قدره من اللون، فغدت الأحجار العتيقة التي تحرس الشواطىء أفرانًا حمراء، وامتلأت صدوع الهضبات البعيدة بجداول من الذهب والفضة، بينما اكتسبت كثبان الرمال البركانية السوداء لمعانها المعدني المميز، وتألقت الأشجار بوهج أخضر فلوريّ ساطع، جاعلة الجزيرة برمتها، بألوانها المائية وما فيها من شرار النار، تبدو مثل عروس مسجاة على فراش من الياقوت والماس والزمرد، تنتظر أن تزفها قوافل النوارس الهائمة، وتغريدات الكناري، على مرأىً من قاطني البيوت البيضاء المكعبة، وزوار الأديرًّة التاريخية، ذات القباب الفيروزية الأخاذة، والنوافذ المقوسة، والأسقف الجصية، متصالبة الأفاريز.

غَمر الضوء القصر الحديث، فريد التصميم، من كل الجهات، فإذا بكل حبيبة ونقرة محفورة في إسمنت الجدران الأبيض كأنها مطلية بقشرة الصدف واللؤلؤ، والتمعت النوافذ والواجهات الزجاجية، المهيمنة على المشهد، بإنعكاسات معدنية مائلة للزرقة، تماوجت كمياه بركة السباحة اللازوردية الصافية، ليتصدَّر صفحتها صورة امتداد الحديقة الاستوائية متعددة الطبقات، والقناطر الخشبية، والممرات الحجرية، نزولاً حتى الشاطىء الخاص بالمُلكية المنعزلة مشددة الحراسة.

كانت تعرشات العنب وثمار التوت تتدلى على السور، تنساب بلون أحمر غني ناقض البياض الناصع المحيط بإميرالد، جَمْع كثيف من الورد يؤطر الممر الحجري بألوان غنية وزاهية، وافرة، تغري بالملامسة أو القُبل، وهنا وهناك، يستطيع الرائي، لو دقق النظر، لمح أزهار النسرين البرّي، بأوراقها البرغلية ذات الحبوب الضاربة إلى الحُمرَّة، تتسلل إلى المشهد، مثل غجر مترحلين ضربوا خيامهم في الحديقة، أما أوراق العشب الندية، المفرودة أمامها على مد البصر، فقد اتحدت في وهج واحد، منحها اخضرارًا مُشعًا يكاد أن يكون أن خياليًا، بطريقة جعلتها تشعر كأنها انتقلت إلى أرض مسحورة، تترنم بها الملاحم الشعرية، وتسودها أساطير الإغريق القدامى، ويحرسها جبابرة الأولمب دائمًا بعين ساهرة لا تنام.

بدت كل أرجاء الجزيرة ـ التي تعرف لدى اليونانيون باسم"ثيرا" ـ مذهلة حقًّا نسبة لبقعة جغرافية نشأت نتيجة تراكم طبقات حمم انفجار بركاني ضخم أطاح بكل الأراضي المحيطة بها في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وتركها تتشكل بنمطٍ جيولوجي عجيب من الجبال، والبحيرات، والمنحدرات كثيفة الأشجار، والشواطىء الرائعة. سوّت حواف القبعة الكبيرة التي ترتديها، جاعلة منها مظلة تقي وجهها وذراعيها العاريين أشعة الشمس الحارقة، ثم دفعت كتلة شعرها الطليق خلف ظهرها، بعيدًا عن أشرطة حمالات ثوبها، المربوطة أعلى كتفيها بعقد أنيقة، ورفعت بصرها، وظلت تتأمل أفق القوس البركاني، الذي يناهز عمره الثلاثة ألاف سنة، وهي تقطع الحدائق ببطء، منحدرة نحو الشاطىء مباشرة بخط مستقيم، نقشت فوقه الظلال الناشئة عن أطراف تنورة الفستان الشفاف الطويل منحنيات سيريالية حالمة، جعلتها تبدو كأنها جزء من صورة أكبر، وكلما انخفضت الأرض المائلة بها، كلما انكشف المشهد الخلاب تدريجيًا أكثر فأكثر، وبات أشد وضوحًا، مثل لوحة انطباعية، مضت تفاصيلها تزداد شيئًا فشيئًا، ريثما تستحيل ضربات الفرشاة، مموهة الألوان، إلى أجزاء متصلة فائقة الدقة.

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن