انحسر النهار عن سانت بطرسبيرج، ولمعت النجوم وتلألئت في عتمة السماء داكنة الزرقة مثل شموس من فضة، فأخذت همسات الليل الخافتة تتناهى إلى المسامع، وخفت ضجيج المدينة مثلما يخفت صخب الحديث في غرفة إنسان يحتضر، وأمسى كل شيء مختلفًا في محيط القصر المشتعل بالأنوار، وقد أرخى الظلام سدوله كالستارة على القباب الزبرجدية الوهاجَّة والشرفات مزخرفة الأفاريز، قبل أن ينخفض نحو الأشجار المشذبة ورؤوس التماثيل الرخامية الصامتة والنوافير الحجرية الهامسة برقرقة مياهها العذبة، ثم يستقر، مهيمنًا بثقله، على مساحات العشب الخضراء النديَّة والممرات الخارجية المرصوفة، تاركًا للقمر مهمة إضاءة مربعات زجاج النوافذ شاهقة الارتفاع، لكي يرسل ضوءه الأزرق الباهات داخل القاعات الفسيحة والأروقة العريضة، بمشهد دراماتيكي أخاذ، ارتسمت على أثره ظلال كبيرة ذات أشكال غريبة فوق الأرضيات والجدران.
بدا مكتب فلاديمير مثلما هو تمامًا بطرازه الفخم المتميز بطابع عصور النهضة الأوروبية، وواجهته الزجاجية المُطلَّة على بحيرة البجع الخارجية والنافورة الكبيرة المضيئة كواحة نور، والسقف المرتفع المزدان بالزخارف الجصيَّة والرسوم المنفذة بأيدي أشهر النقاشين والفنانين، والأثاث المَلكي الثمين، والسجَّاد الشرقي، والتحفيات والخزفيات النفيسة التي لا تقدر بثمن.
لكن، بما أنَّ الأمكنة تكتسب أحيانًا أمزجة أصحابها ـ وربما تتأثر بمشاعرهم الحقيقية المخبأة بمهارة خلف أقنعة السكون الظاهري أيضًا، فلم تلبث الغرفة الرسمية المهيبة إلا أن بدأت تتكدر شيئًا فشيئًا؛ شَحُب لون الستائر المخملية الثقيلة، واِغمقَّت زخارف ورق الحائط البارز، ودكنت أرجل المقاعد الخشبية المحفورة ومالت إلى لون الماهوجني المميز المحروق، أما أسطح النُضّد والطاولات الرخامية الملساء فقد اعتمت درجة أو درجتين وفقدت لمعانها ممَّا أبرز لونها الزمردي القاتم الذي لا يراه المرء متاحًا بهذه الوفرة عادًة إلا في قصور روسيا العريقة، بحين لم تعد مصابيح الثريا النحاسية المُعتقَّة تلقي إلا ببريق ذهبي باهت وخجول، مضى يتسرب عبر الدمعات البلوريَّة المستدقة وينزلق متماوجًا ببطء، مشكلًّا غلالة ضوئية رقيقة، تكثفَّت حول اللوحات الزيتية القيمَّة، ليحمَّر الذهب المنقوش الذي يؤطرها ويميل أكثر إلى النحاسي الملتهب، الأشبه بآخر قبس مسروق من انعكاسات مشهد الغروب الهارب.
كان الشاي في فناجين الخزف الروسي العريضة قد برد منذ فترة طويلة بعدما أصاب السماور الأثري الوهن، فتوقف عن نفث الأبخرة مثل مدفئة قديمة انطفأ جمرها وتحوَّل إلى رماد، موحيًّا لساعة (بول*) الأبنوسية المرصعَّة بقشور الصدف والمينا الخضراء والذهب أن تحبس ضجة تكتكاتها مخافة أن ينفجر صوت ناقوسها الحادّ مجددًا ويوتر الأجواء المشحونة أكثر، فالجو مشحون سلفًا لدرجة أنه يمكن للمرء قطع التوتر بسكين الزبدة؛ البوابة الثقيلة ذات المزلاجين تُفتح وتغلق بين الفينة والأخرى بكل هدوء وحذِر، خطوات الخدم القائمين على الضيافة مكتومة، والهمس الخفيض يتوقف من تلقاء نفسه لدى دخول أحدهم إلى الغرفة الملغومة، لتسفع وجهه تلك التيارات الباردة التي تخرج من الصناديق القديمة المُغبرة حين ترفع أغطيتها، بطريقة جعلت يوري يتسلل خارجًا مثل الظل دون أن ينتبه إلى غيابه أحد وقد تأثر برهبة الموقف والصمت اللاذع، فانتهى به الأمر إلى فقدان صوته والرغبة في شهود تداعيات المُعضلة العائلية التي فجرَّها حقد إيلينا في محيط آل فاسيلييف فجأة، ودون أي سابق إنذار، يُخطر العقل ويهيئه أن يستعد للقادم.
أنت تقرأ
{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984
Romansaسيمفونية الجليد والنار الجزء الثالث سلسلة اسرار خلف أسوار القصور كتابة وتأليف: Noor 1984 تصميم الغلاف والقالب الداخلي: Gege86 دار نشر منتديات شبكة روايتي الثقافية - قلوب أحلام الغربية https://www.rewity.com/forum/t478760.html روايات غربية بقلم noor1...