الفصل التاسع "الجزء الثالث"

160 9 0
                                    


أرسل القمر المزيد من نفحات أشعته الباردة، بدفقات هزيلة ومريضة، كأغنية يدندنها خريف مشلول على صفحة الليل الساكن الذي تجاوز منتصفه، وما تزال إينور تقف في وجه رياح التغيير، غريبة ومتحدية، مثل شوكة منفردة، بلا بارحة أو غد، وحزنها المرير ينهمر على وجنتيها كدموع دمية خزفية قسى الألم على قلبها المشرد، ونهش من جراحها المفتوحة بنهم أسود، ما أن لفظتها جدران القصر المنحوس إلى الشوارع الحزينة، حيث انطلقت كالمجنونة، لا تلوي على شيء، مثل نقطة ضوء ضالة ضيعَّت مسارها، وتاهت وسط الظلمة.

لا تعرف حقًّا كيف نهبت العجلات أسفلها الطرق الاسفلتية المعبدَّة ولم تتسبب لنفسها بحادث سير مميت، بينما تقود بسرعة انتحارية طائشة، متجاوزة كل مركبة عابرة وإشارة توقف حمراء في اسطنبول. أو كيف تمكنت بعدها من الوصول إلى البناية التي تقطنها، لتودع السيارة الفارهة في المرآب دون خدش، قبل أن تترجل وتدفع جسدها عمق المصعد المعدني الخانق، وتستدّل على طابقها.

كانت مستسلمة لتلك الأعاصير التي عصفت بها طوال طريق العودة، أعاصير لا اسم يُعرفهَّا ولا شكل يميزها ظلت تأتي لتقلب كل شيء داخلها ثم تمضي مُخلفَّة وراءها قدر أكبر من الدمار، تاركة إياها هشَّة، محترقة، عرضة للعطب والجنون. نبع دمها يغلي بشدة، وثمة أصداء ليالٍ طويلة من البكاء الأخرس تتلاطم في صدرها، تشهر بالتعب، بالارهاق، بالسخط، تجتاحها مرارة ما فتئت تتفجر في حلقها وفمها عبر فقاعات وهمية مضت تزاحم حتى أنفاسها، وكل جسدها يرتجف وخارج نطاق السيطرة إلى درجة جعلت سلسلة المفاتيح تسقط من يدها المرتعشة أكثر من مرة وهي تحاول عبثًا فتح باب شقتها.

بالكاد تمكنت من فتحه أخيرًا واندفعت إلى البهو بفوضوية سمكة يحملها شلال عنيف لا تملك غير مجاراته، يثقلها إحساس متوتر وقلق، كأنها على وشك عبور عتبة خيالية ستأخذها إلى عالم آخر، وليس منزلها الآمن، وما فتئت مشاهد المواجهة الممزقة السابقة ترفرف في عقلها كرايات حرب تخضبها دماء السخط والغضب.

صفقت الباب خلفها بقوة لم تدركها، فتردد صدى ارتطام الخشب المدوي في أذنيها بانفجار هائل أجفلها، وجعلها تتسمّر أسفل الضوء الشاحب بجمود تمثال رخاميّ، مُسلسّل بسلاسل فولاذية ثقيلة منذ أمد الدهر. كانت الإنارة في البهو الفسيح خافتة جدًّا، المرآة الكبيرة المعلقة على الجدار تعكس هيئتها المزرية بطريقة مشوشة وغير واضحة المعالم كما لو أنها ظل معتم، والهدوء يقارب أن يسود مساحات الشقة البيضاء الأنيقة لولا ذبذبة موسيقى الأغنية التركية المنبعثة من المطبخ، دلالة مباشرة فوفو الاحتفال بحريته الوشيكة وثراؤه المرتقب ـ نظير اختطافه ـ مع كأس من النبيذ الفاخر. بالرغم من ذلك؛ لم تنتبه إلى التفاصيل أو تنادي عليه. وتجهل كم ظلت واقفة مكانها، تحدق في الفراغ كقطرة صمت سقطت في شبكة الضوضاء المكتومة المترددة حولها، وكأنها خلفت ذاتها التي تعرفها ونقاءها وبرائتها في قصر الأفاعي الملعون، وعادت إلى حيث يهاجمها الواقع بكثافته كلها..يعريها من الأشياء التي ظنَّت بأنها تحبها..يعريها من كل شيء إلا من البرد والغربة والذكريات القريبة القاسية بينما تحاول عبثًا أن تغتال المشاهد العابرة ذهنها كي تدفنها بعيدًا في مكان ما.

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن