المقدمة

735 18 0
                                    


تمسك قطعة من الحجر بين أصابعك، ترفعها، ثم تلقيها في مياه دافقة. قد لا يكون من السهل رؤية ذلك. إذ ستتشكل مويجة على سطح الماء الذي سقط فيه الحجر، ويتناثر رذاذ الماء، لكن ماء النهر المتدفق يكبحها. هذا كل ما في الأمر.

ارم حجراً في بحيرة، ولن يكون تأثيره مرئياً فقط، بل سيدوم فترة أطول بكثير. إذ سيعكر الحجر صفو المياه الراكدة، وسيشكل دائرة في البقعة التي سقط فيها، وبلمح البصر، ستتسع تلك الدائرة، وتتشكل دائرة إثر الدائرة. وسرعان ما تتوسع المويجات التي أحدثها صوت سقوط الحجر حتى تظهر على سطح الماء الذي يشبه المرآة، ولن تتوقف هذه الدائرة وتتلاشى، إلا عندما تبلغ الدوائر الشاطىء.

إذا القيت حجراً في النهر، فأن النهر سيعتبره مجرد حركة أخرى من الفوضى في مجراه الصاخب المضطرب. لا شيء غير عادي. لا شيء لا يمكن السيطرة عليه.

أما إذا سقط الحجر في بحيرة، فلن تعود البحيرة ذاتها مرة أخرى.

‹‹Elif Shafak - The Forty Rules Of Love››

* * * * *

كان(القرن الذهبي)عبارة عن شبه جزيرة في مدينة اسطنبول تأخذ شكل القِرن، وتقسمها إلى نصفين، مما منح المعلم الجغرافي الشطر الأول من تسميته، تاركاً الشطر الثاني يخضع لتخمينات وتكهنات المؤرخين الذين اعتقد البعض منهم أنها اشارة إلى الكنوز التي دخلت المدينة عبر الميناء التاريخي، بحين ذهب البعض الآخر لتفسيرات رومانسية فنية عزت التسمية إلى انعكاسات الضوء الأصفر على مياه المصب كلما غربت الشمس وحل الغسق على مد البوسفور متلألىء الزرقة.

مخرّت عبارة قديمة ومتهالكة عباب البحر، مثل ذراع مائية تكابد المشاق منذ أمد الدهر، تاركة خلفها خط أبيض طويل على السطح الداكن المتموج قليلاً، لكنها لم تكن مرئية فعلياً وقد بدت أضواء السفن السياحية الفاخرة، العائدة من رحلتها المتأخرة نحو المرفأ الهادىء الغارق في روحانية الليل الصامت، كمشاعل نار متوهجة مضت تضيء الأفق القاتم، لتفصل البحر الساكن عن السماء، جاعلة المشهد أقرب إلى لوحة انطباعية مرسومة على أميال من الحرير الأسود بريشة فنان ماهر، صمم على وضع رتوش فرشاته الأخيرة فوق تلاطمات الأمواج الداكنة بضربات ذهبية ساحرة ما فتئت تتحرك، واحدة تلو الأخرى، على سطح الماء، بينما تتبع كل ومضة سابقتها التي تطلبها حثيثاً، إلى الأبد. وما أن تقترب الموجة الرقراقة من احدى السفن المتهادية ببطء، حتى تتكاثف كحزمة مضيئة، وترتفع، ثم تهوي بنفسها على جوانب الهيكل المعدني الصلب، فتتكسر وتنثر غلالة رقيقة من الزبد، قبل أن تقف وقفة انتظار، متآوهة كنائم يتنفس بلا وعي منه.

ولم يكن اليخت الأبيض(آرِنْ)، ذو الطراز العملي الأنيق، والقمرات الزجاجية المعتمة، باستثناء من عبث الأمواج المضيئة ورذاذ الزبد المتكسر على جوانبه، رغم توقف محركاته عن العمل واستقراره بهدوء تام في نقطة بعيدة نسبياً عن الميناء ـ الموشك على استقبال آخر الرحلات السياحية والإغلاق ـ دون أن يلفت الإنتباه، تجنباً لإثارة اهتمام السياح الفضوليين وضباط خفر السواحل التركية ودفعهم إلى تفتيش متن المركب المكتظ بعشرات الرجال الأجانب المسلحين.

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن