الفصل السادس عشر "الجزء الثاني"

231 12 26
                                    


تجزأت سحابة من الأنوار المتلألئة وتشظَّت لتغمر صالون الضيوف الكبير في قصر آل كودين الصيفي الفاره بينما تنشر الثريات الكريستالية الضخمة انعكاساتها على السقف المرتفع؛ حيث يسود طراز فن(الروكوكو*) المعماري كثير الزخرفة مُؤَطرًا اللوحات السقفيَّة، التي تصوَّر الفصول الأربعة بألوان باستيل صدفية متدرجة، بدت مثل أمواجٍ تتهادى فوق رخام الأرضيات المصقولة والأعمدة المُذهبَّة والأثاث الفرنسي الثقيل ذو النَجْد المخملي المنقوش برسوم دقيقة التفاصيل تعود بحقبتها الزمنية إلى القرن الثامن عشر.

كان هناك مجموعة طاولات كوكتيل مرتفعة مُغطَّاة بشراشف ساتان قشدية تعتليها الشموع وتنسيقات الزهور الأنيقة داخل أٌصص زجاجية شفافة، وثمة شرائط ذهبية مزخرفة بالورود تلتف بأناقة حول المقاعد، ونافورة ضخمة من الشمبانيا تتألق منتصف القاعة فوق مئات الكؤوس الكريستالية المرتبة بشكل هندسي متقن لم ينافسه في لفت الانتباه سوى الأوركيسترا الكاملة التي كانت تحتل جزء كبير جدًّا من مساحة البهو الدائري المفتوح أسفل السلالم الهلالية الضخمة، باستعراضٍ صريح للثراء الفاحش وجاهزية أصحاب القصر للبذخ على حفلاتهم دون أي حدود.

أما الضيوف فقد أخذوا يدورون في القاعة الواسعة العابقة بالعطور الفرنسية النفاذة ورائحة التبغ والسيجار على شكل أزواج راقصة ما أن رفع المايسترو الشهير ذو الشعر الأبيض والتوكسيدو السوداء عصاه، فانطلقت معزوفة(فالس)حيوية، دفعتهم للدوران مثل البَندول؛ الرجال في بدلاتهم الرسمية الأنيقة راقية التفصيل والنساء بفساتينهن الحريرية المصممة ومجوهراتهن الثمينة.

كان قوس العازفين البارعين يمر بسرعة هائلة على الأوتار حتى تكاد أن تنبثق عنها شرارات كهربائية، بينما ترتفع أصابع عازفي الناي وتنخفض كما لو كانت مصنوعة من مادة الزئبق، وخدود نافخي آلة الساكسفون تنتفخ مثل مناطيد صغيرة، كلَّ ذلك ساهم في تشكيل فيض من العلامات الموسيقية والألحان الثنائية المتكررة فائقة السرعة، ممَّا ألَّف سلالم أنغام تصاعدية وتنازلية في منتهى المكر والالتواء بطريقة لا يمكن تصورها، حتى أن العفاريت نفسها ما كانت لتتمكن حقيقًة من مواكبة مثل هذا الايقاع السريع لأكثر من دقيقتين!

'لا بُدَّ أن المايسترو العجوز قد سأم من أحاديثهم السخيفة وقررّ انهاكهم وإعادتهم إلى منازلهم أسرع وقت.'

حدث يانيس نفسه بمرح وهو يرقب الحشد عبر نافذة الشرفة، حيث إنزوى بنفسه لتفقد مكالماته الهاتفية، وقد بدا من دواعي الشفقة ـ والتسلية ذات آن ـ بالنسبة إليه رؤية الجهود التي يبذلها الراقصون لاستدراك الإيقاع، وهم يُسرَّعون في خطواتهم، ويقاربون على البدء في القفز والشقلبة بينما يدورون في حركات دائرية، ويستبدلون ساق مكان ساق أو يحاولون تأدية وثبات الفالس التصالبية التي تعلموها قسرًا أثناء المراهقة، لتذهب كل محاولاتهم وجهودهم عبثًا وما فتئت فرقة الأوركيسترا تسبقهم بثلاث نوتات موسيقية أو أربع.

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن