غمر ضياء الظهيرة الساطع نيويورك، وتحدّب فوقها مثل قبة براقة، تساقط من مركزها الضوء بسهام منيرة، جعلت المدينة تسبح وسط غلالة شفافة من ذلك الشعاع الأزرق الفولاذي الحاد الشائع في مانهاتن ومراكزها الحيوية المكتظة أثناء النهار، ولكأن المحيط بأسره يفيض وينثني ثم يمتزج مجددًا ويهطل كصهارة معدن تنسكب على الأفق. فتسابقت الطيور فوق القمم الهندسية الشاهقة وجابت السماء الزرقاء الصافية، تغرد في جوقة موسيقية واحدة، بأصوات رنانة حاولت أن تطغى على همهمات البشر والمحركات الصاخبة، تارًة تصدح بانفراد، وتارًة أخرى تعي الصحبة وتشترك مع مجاميع الطيور المتبقية في الغناء، ثم تنحدر برهافة وتهبط وتحط على الأسطح وأفاريز النوافذ، لترنو بعيونها الخرزية نحو دواخل المباني وتسترق النظر، بينما يهب الهواء الدافىء، ويتحرك في الفضاءات الشاسعة، يحمل معه قصاصات الصحف القديمة وأوراق الشجر الجافة المتساقطة على الأرصفة، ليطيَّرها، ويتمايل معها برقصة أزلية مألوفة، أخذتها صعودًا وهبوطًا، قبل أن تنجرف برشاقة وتستقر أسفل عجلات المركبات المتوقفة أمام المداخل، لتستظل بالهياكل المعدنية اللمّاعة من أشعة الشمس القوية المتوهجة مثل قرص ملتهب.
كانت المرسيدس الفضية الفارهة التي أقلت آيدِن قد اجتازت أزمة السير النيويوركية الخانقة وزحام (وول ستريت)بنفوذ وثقة، وصوت نفير بوقها يفرق الحشود المارَّة كسكين حاد، حتى توقفت أخيرًا أمام مدخل مبنى كلسيّ أبيض أنيق، ينتصب عند تقاطع كنيسة(الثالوث*)التاريخية ومدخل بورصة الأسهم، بهندسته الانشائية المميزة وواجهات الزجاج المُضلعَّة العاكسة.
ومع أن البناية المتألفة من اثنتي عشر طابق فقط بدت صغيرة الحجم نسبيًا، ومحشورة حشرًا، وسط سلسلة ناطحات السحاب العملاقة التي تحتل المربع الرحب بأكمله، مُشكِلَّة بامتدادها أحد أكثر شرايين عالم المال النابضة شهرة، حيث تبدو حركة الحياة وسرعتها على أقصاهما، بيد أن الحجم لم يكن ما يجذب الأنظار إليها عادًة، إذ تنطوي فضلًا عن طرازها المعماريّ الفريد ـ العائد إلى ثلاثينيات القرن الماضي ـ على طابع خاص يميزها بسحر جذاب ومظهر خارجي لافت منحها ميزة القدرة على التخلص من حدّة المنافسة بلباقة وسلاسة هادئة، تناقضت حتمًا مع مشاعر النفور التلقائية التي اعترت آيدِن حالما دلفت عبر الباب الدوَّار، وتبدد انبهارها المبدئي، ما أن وطأت البهو الأشبه بمتاهة صقيلة مصنوعة من الرخام الوردي والنيكل اللامع البراق، ثم اقتحم أذنيها صدى طرق كعب حذائها البنفسجي العال، مترددًا على البلاط الأملس بقرع مستفز، كاد أن يصيبها بالصمم أثناء سيرها تجاه مكتب الاستقبال الطويل ذو السطح المرمري داكن الخضرة.
كانت معظم الجدران مغطاة بمرايًا ضخمة تتبعت انعكاسها وهي تتحرك برشاقة، وهيئتها المشرقة تلون الأسطح الفضية اللماعة بينما تكسب الأخيرة عليها حُزم منيرة بدت كحمضٍ يذيب كل ما هو جامد وسطحي حولها ليركز بؤرة الضوء على خصلاتها النارية المتراقصة خلفها كشلال نار، قميصها البنفسجي عاري الأكمام، بنطالها العاجي الضيق، مرتفع الخصر، والماسة الصغيرة الملتمعة وسط مدلاة عنقها الرقيقة.
أنت تقرأ
{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984
Romanceسيمفونية الجليد والنار الجزء الثالث سلسلة اسرار خلف أسوار القصور كتابة وتأليف: Noor 1984 تصميم الغلاف والقالب الداخلي: Gege86 دار نشر منتديات شبكة روايتي الثقافية - قلوب أحلام الغربية https://www.rewity.com/forum/t478760.html روايات غربية بقلم noor1...