الفصل الثاني عشر"الجزء الثاني"

289 5 0
                                    


يتداول المؤرخين وباحثين الميثولوجيا الإغريقية دائمًا الأسطورة اليونانية القديمة التي تقول بأن مدينة أثينا قد بُنيت، في وقتٍ مبكر من القرن السادس قبل الميلاد، فوق تلة مرتفعة، بواسطة مخلوق أسطوري نصفه رجل، ونصفه الآخر ثعبان، يُدعى(كيكروبس*)، ولسنواتٍ عديدة، حكمها كملك، بيدٍ قوية، وحولها إلى مركز تجاري هام، حتى نمت وازدهرت واشتهرت، وجذبت أنظار آلهة أوليمبوس، فقرروا مباركتها واطلاق اسم واحد منهم على المدينة ليصبح راعيها، ممَّا دفع آلهة الحكمة؛ أثينا، للتنافس مع إله البحر؛ بوسايدون، للحظوة بهذا الشرف، واختصموا لدى زيوس، الذي توصل إلى قرار، بعد تفكير طويل، يقتضي أن يقدم كلا منهما للملك وشعبه هدية قيمّة، ومَنْ تقبل هديته، تحمل المدينة اسمه ويصبح مرشدها وحاميها وراعيها. هكذا، ذهب بوسايدون أولًا، وقف على صخرة، ثم ضرب الأرض برمحه الثلاثي وأخرج الماء من باطن الأرض، ومنحهم هبته: هبة الماء. وبعد أن أذهلتهم فكرة عدم الاضطرار إلى الشعور بالعطش وريّ المحاصيل طوال العام، ركض المواطنون لتفقد عطيته، لكنهم اصيبوا بخيبة أمل كبيرة عندما اكتشفوا أنه كان مالحًا بالفعل، تمامًا مثل مياه البحر، فجاءت أثينا حينها، ومدّت يدها إليهم، كاشفة عن بذرة، سرعان ما زرعتها في الأرض، فترسخت البذور ونمت، لتصبح شجرة زيتون جميلة ومثمرة جعلت الغبطة تغمرهم، لأن هبتها عنت الزيت والطعام والحطب، فهتفوا مهللين بصوت واحد لأثينا، واختاروها مع ملكهم لأن تصبح هي راعية مدينتهم.

وبالرغم من تعاقب القرون، وتغير المفاهيم، وتطور نظرة الإنسان ـ ووعيه الديني والثقافي ـ بمرور العصور، ظلت أثينا واحدة من تلك المُدن التأريخية العريقة، العجائبية، التي تلتقي فيها الحضارات، وتتصادم، بتباين أضداد جليّ للعيان، فلا الأساطير تسلبها هويتها العصرية، المتقدمة نسبيًا، ولا الحاضر يستطيع أن يقف بوجه ماضيها ـ برغم جميع ما لها وما عليها. مدينة تنصهر فيها كل التناقضات في بوتقة فريدة واحدة تتجلى فيها أطلال الآثار الحجرية المتهدمة، والمظاهر العمرانية الحديثة، سابحة وسط غلالة ذهبية متألقة، تتأرج كوشاحٍ حريري، يلامس طرفه قمم جبال هيميتو وبينديلي وبارنيثاس، المغطاة بخضرة أشجار الزيتون المثمرة تارًة، ثم ينخفض، ويداعب رمال الشاطىء البيضاء وزرقة أمواج البحر الأبيض المتوسط تارًة أخرى، ممَّا يوقظ في نفس عابر السبيل الذي يتأملها الرغبة في عقد المقارنات مع باقِ العواصم الأوروبية المتختلفة، لعله يجد سِمة تميزها، أو ثغرة تنقصها، قبل أن يدرك أنه سقط في شركها، وربما في غرامها أيضًا، لأنها لم تكن تشبه شيئًا، رغم بساطتها الخادعة وفوضاها الكامنة، ولم تكن تحتمل المقارنات على قدر امكانيتها في تحمل: زخات البَرد والأمطار الغزيرة شتاءًا، وموجات الحرارة الشديدة صيفًا، أقواس قزح الربيع، وجفاف الخريف، الأعلام التي ترفرف على أسطح منازلها الحجرية العتيقة وأمام واجهات مبانيها العصرية معدنية الانعكاس، عاطفية شعبها الفخور وإيمانهم بالخرافات، وتقلباتها السياسية، وحكوماتها الغارقة في الفساد والاختلاسات، وبالتأكيد، أخيرًا وليس آخرًا، أزمة السير النهارية الخانقة، نظرًا لعدم التزام مواطنيها أبدًا بالمواعيد والاشارات.

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن