الفصل السادس الجزء الأول

200 9 7
                                    

"لا توقظوا المرأة التي تحب...دعوها في أحلامها حتى لا تبكي عندما تعود إلى الواقع المر"

«مارك توين»

كل عاشق يحتاج إلى صنع خرافته وجعلها أمام الناس ونفسه كأسطورة عشقية تملؤها تفاصيل مذهلة تخلو من الخلافات الجوهرية والشجار، لذا نجد القلة ممَّن يعترفون بما يخبئونه في صدورهم ويغلقون على اختلاجاتهم كما الأسرار، أو يجاهروا بالوقت الذي زال فيه بريق الأشياء وتبدد الانبهار، ولمحوا وحش الفراق وهو يتسلل ويكمن أسفل الشرفات مرتفعة الأسوار، ثم سمعوا صوت التكسر في قلوبهم للمرة الأولى بدويًّ هائل يشبه الانفجار، ذلك الصوت المدويَّ الذي يهز المرء من الداخل عادًة، يخيفه، يرعبه، يزلزله، يحاصره، يمنعه من الفرار، ويجعله يرغب في التمسك بأي شيء صلب خشية السقوط من على شفا الهاوية والانحدار.

فنرى البعض يهرب من مواجهة الحقائق ويعتنق مذهب الإنكار، يتمسك بحبال الوهم تحت ذريعة الرغبة في الاستقرار، ويتخذ موقف سلبي عوض التحلي بمنطقٍ يساعده على تجاوز المرحلة والمضي قدمًا كي لا تُدهَس أحلامه أسفل أقدام الأشرار، وينقص لديه الوعي الذي كان يدله على الصواب كضوء فنار ينير خليج مظلم عمق أحد البحار. وهكذا..يتبلد الاحساس..وعندما يأتي التكسر الثاني..يبدو لهم الصوت أقل إرهابًا رغم احلاله ذات الدمار، كما لو أنه يحضن داخله حيوان قارض مضى يأكل من روحه تدريجيًا، قضمة فقضمة، ممتصًا مقاومته وحسه السليم ويخضعه لمسايرة التيار، ليصبح الصوت المنبه الذي أرعبه أول مرة مجرد خشخشة فأر واهن وعجوز تسلل إلى أعماق لا وعيه دون تفعيله جرس الإنذار، إلى أن يأتي التصدع ما قبل الأخير ـ ذلك الذي يسبق أتعس وأقسى أنواع الانكسار ـ فتكون نهايات الأعصاب قد تخدرَّت، ولا يعود قادرًا على سماع الصوت المحذر بينما يهتف به:"أنها النهاية"، وأنه لربما بات على وشك فقدان كل شيء إذا لم يفتح عينيه جيدًا ويكون صاحب وصانع قرار وليس مجرد ريشة تتقاذفها أعاصير التغيير والأقدار.

* * * * *

انحدرت شمس الأصيل في سان بطرسبيرغ نحو المغيب تدريجيًا، فتصاعد النسيم، وسرت رعشته في أوراق الشجر، وتكاثفت سحب الصيف الرمادية العابرة وجرَّت نفسها عبر القرص الملتهب، بحيث أن واجهات القصر الحجرية الملساء أعتمت وغدت داكنة فجأة، بعدما انحسر ضياء العصر الساخن عن ممرَّات الحدائق المرصوفة وإسفلت الشوارع الداخلية ورقق صلابتها، وتماهت الظِلال واستطالت، وفقدت أسطح مياه البحيرات زرقتها اللازوردية وأصبحت مثل مرايًا ضخمة ذات انعكاسات معدنية باللونين الأحمر والذهبي، وقد توهجت الأشعة الذهبية، وتألقت، بينما انتشرت أطياف الغسق القرمزية في الأفق وحطَّت كأوشحة من حرير فوق القباب البازيليكية المذهلة، وسقطت أضواء الغروب الدافئة بميلان أفقي جعل الأعمدة الكورنثية والتماثيل الرخامية المحيطة بالشرفات تبدو وكأنها مطلية بقشرة اللؤلؤ والصدف، مصقولة ولامعة.

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن