الفصل العاشر"الجزء الأول"

193 9 0
                                    


الفصل العاشر

"ثمة مصيبتان في الحياة: الأولى ألا تحصل على ما تريده، والثانية أن تحصل عليه."

«أوسكار وايلد»

لا يُدرك الإنسان كم هو ضعيف حقًّا أمام رياح الأقدار، وكم أن حاله قد يتغير في لحظة تجري عكس التيّار، مهما كان يظن نفسه يسيطر على أمور حياته وعقد العزم على تحقيق أهدافه المستقبلية وتشبث برؤيته الذاتية بعنادٍ وإصرار، مهما احتاط وتجنّد واستعد ووضع في ذهنه مئات الخطط والأفكار، مهما حارب عبثًا أو اعتنق من مذاهب الإنكار، ومهما اعتقد أنه قد كفَّن جثث مخاوفه وقذفهم عميقًا إلى قاع أحد البحار لعلها تغفو جنبًّا إلى جنب صناديقه المُحكمة التي تحتوي كل ما يحتفظ به من ظلمة وضعف بشري وأسرار، طالما تظل هنالك زوابع قدرية تعصف بالمرء عادًة دون سابق إنذار؛ توقف الزمن بحديَّة نصل سيف بتَّار، وتعيث فسادًّا في متغيرّات عالمه مهزوز الاستقرار، لتعيد تشكيل حياته من جديد، فتعيده أحيانًا إلى البداية وتضعه وسط حلقة مفرغة مثل كوكب سيَّار ليس أمامه حل سوى الدوران بنفس المدار وحول ذات الأقمار، أو تنقله في أحيان أخرى إلى نهاية غير متوقعة، تجعله إنسان آخر، بمصير جديد وحياة مختلفة لم يتخيل أنه كان ليتجرأ ويختارها إذا منحه قدره رفاهية تحديد المسار وسمح له بالذبذبة والمماطلة في اتخاذ القرار.

* * * * *

بهت لون الشفق القرمزي وكاد أن يذوب نهائيًا ويتلاشى من سماء مدينة بورصة الغافية على مشارف بحر مرمرة عميق الزرقة كجنية أسطورية تتلفح بالضباب، وسادَّ فجأة صمت مهيب؛ لم تعكر صفوه حتى أصوات زقزقة العصافير، فما عاد يُسمّع في المدى أي هسيس آخر يتداخل مع حفيف الريح وضربات الموج البعيدة، بينما بدأ الضياء يشع تدريجيًا، مُعلِنًا ميلاد يوم جديد، بعدما تسلل بخيوط ذهبية شاحبة، مضت تتوغل شيئًا فشيئًا عمق الفجر الرمادي الذي صبغ كل شيء ببريقه الفضي المرتعش مثل بريق عينين مريضتين أتعبهما السهر، ريثما تقطع الأفق بألياف صُفر وبرتقالية مشعة، توهجت كأنها انعكاسات ألسنة نار أُضرمت في العراء، قبل أن تنصهر في وهج واحد، دحر بقايا العتمة أخيرًا، كي يرسم مشهد طبيعة بِكر تتأهب لليقظة.

كانت ستائر الغيوم قد ارتفعت ببطء ملموس كشف وجه السهول الخضراء الممتدة أسفل جبال (أولوداغ*)، وبدأت أشعة الشمس الخجول تزحف متهادية بروية ابتداءً من الأطراف المترامية باتجاه المدينة السياحية الشهيرة، الغارقة في الضباب والظلام النسبي كأنها أرض قديمة منسية؛ نصفها غارق في العتمة والنصف الآخر في النور، ممَّا أبرز القمم المرتفعة أولًا، وسلط الضوء على السهول النائية المصطبغة باللون الأخضر الفاتح، لتلامس نفحات النور أوراق الشجر المتطايرة فوق اسفلت مدرج المطار الخاص المنزوي بعيدًا عن الأنظار، وتكسبها المزيد من الألوان بينما تتحرك صعودًا وهبوطًا بخفة راقصة تسبق انجرافها، كبرادَّة حديد يجذبها مغناطيس عملاق نحو رتل السيارات المصطفة بطريقة عدائية شرسة، قبل أن تستقر حول عجلاتها العريضة وأسفل محركاتها الباردة، كأنما تحتمي بها من رهبة منظر الطائرة البيضاء الضخمة الجاثمة عند نهاية المدرج.

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن