الفصل الثامن "الجزء الثاني"

157 11 0
                                    


عندما يشير أحدهم إلى جنوب مقاطعة(The Bronx)في الولايات المتحدة، فأن أول ما يخطر على الذهن عادًة، إلى جانب ارتفاع معدلات الجريمة هو: الموسيقى اللاتينية والراب، وفلم(حكاية برونكس*)للممثل روبرت دي نيرو، والمجموعات العرقية المختلفة، والمنعطفات الملتوية التواء الأفاعِ السوداء، والأزقة الضيقة، والأحياء الفقيرة، والمجمعات السكنية المتلاصقة لذوي الدخل المنخفض. وبالتأكيد؛ سوف يتبع كل هذا؛ استحضار ذكرى موجة الحرائق المفتعلة التي اجتاحت الكثير من الأقسام الحيوية فيه ودمرتها بالكامل إبان سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بعدما قرر بعض أصحاب العقارات حرق مبانيهم منخفضة القيمة، وأخذ تعويضات التأمين، عوضًا عن تجديد الأبنية ومحاولة بيعها خضم ضائقة أزمة السوق العقارية آنذاك.

بيد أن نيويورك كانت مدينة تكره الإيجاز والتشابه في أي شيء، ودائمًا ما عهد قاطنيها والزائرين مفاجآتها، كأنها امرأة عنيدة، متقلبة الأمزجة، ترفض الكشف عن أوراقها دفعة واحدة، ثم فجأة، ودون سابق إنذار، تلقي بورقة رابحة، تقلب كفة الميزان، وترجح الشهقة، ممَّا يترك المقابل يعيش احساس انخطافة الدهشة الأولى مع كل جزء جديد يستكشفه في أرجائها الرحبة، كمن ينظر عبر مسافة نحو لوحة سيريالية مُشفرّة، مبهمة الملامح، ومتداخلة الخطوط والألوان، لكن سرعان ما تبدأ تتضح، وتتجلى جماليتها، كلما اقترب أكثر. تمامًا كما حدث مع آيدِن، حالما عبرت بها السيارة جسر هارلم المتحرك ـ والذي كان يحمل سابقًا خط سكة حديد المترو الشماليّ إلى جانب مساراته الأربعة، وتوغلت في المسالك المتشعبة، مرورًا بالجداريات الهائلة الملونة الممتدة على طول شارع(جاريسون)، وعبر شارع(تيفاني)، حيث لاحت أمامها مكتبة نيويورك العامة، وكنيسة القديس أثناسيوس الكاثوليكية، وصولًا حتى وجهتها المنشودة أخيرًا في منطقة(لونغوود)التاريخية.

إذ كانت(Longwood Historic District)عبارة عن مجموعة مُربعات سكنية متجاورة تم بنائها مطلع القرن العشرين من قبل مطور عقاري تنبأ بالزيادة السكانية المتوقعة، فأشترى الأرض، ثم استأجر المهندس المعماري(*Warren C.Dickerson)، الذي شيّد المنازل بانسجام فريد، تداخلت فيه خطوط النهضة العصرية الجديدة ومدرسة العمارة الرومانسية، مع تباين كافٍ في عناصر التصميم لردع رتابة طراز المنازل المتميزة بواجهات حجرية معتقة، وحدائق صغيرة في المقدمة أضفت الإحساس بالرحابة، ونوافذ كبيرة، وأبواب زجاجية مؤطرة، تفصلها عن الشارع ممرّات مشجرة محاطة بدرابزين حديدية مزخرفة أخذت روعتها أنفاسها وأرغمتها على التلكؤ لبضع ثوان كي تتفحصها ما أن أوقف جوناثان السيارة أمام بوابة مبنى القديس دومينيك لخدمات رعاية الأطفال، وترجلت، وقلبها يخفق بشدة مثل قلب طفلة صغيرة متحمسة إثر الأحداث الغريبة المتسلسلة التي قادتها نهاية المطاف إلى هنا.

فدائمًا ما آمنت آيدِن قرارة نفسها أن الأقدار تتغير في لحظة تنقل المرء من قمة التعاسة إلى أقصى السعادة، أو تنتزع الفرح فجأة وتبتليه في هم طارىء يغرق فيه بانتظار الرحمة، وما الإنسان إلا قارب تتقاذفه رياح الأقدار من شاطىء إلى آخر، لا يمتلك بينهم سوى حق الاختيار ما بين مرافىء الصواب والخطأ وتحمل النتائج، وهي كانت قد رفضت أن ترسو على ميناء الباطل عندما غادرت مكتب تلك الشمطاء المدعوة آديلاند كمّن هرب من دوامة تعذيب لا متناهية بدت مثل دهاليز الكوابيس، وكل ذرة فيها مستعدة لتتحمل أي عواقب تترتب على قرارها برفض صفقات التبني السوداء التي طرحتها أمامها الأخيرة مثل آلة حاسبة تحصي الأرباح.

{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984حيث تعيش القصص. اكتشف الآن