بدا القمر المكتمل عبر واجهة مكتب مكسيموس الزجاجية صافٍ ولامع بما فيه الكفاية لأن يسكب على سطح البحر الحبري الشفاف نثارًا طويلًا من شذرات الفضة، أشرعة سواري السفن التجارية والمراكب المتهادية عرض البحر الداكن تبان وتختفي مثل فراشات بيضاء، والرياح الشرقية تبدو كأنها تنشر نوتات سيمفونية عذبة تُعزَّف منذ دهور، فتهز الأشجار، وتحمل انعكاسات الأضواء وتنثرها فوق الموج الراقص كذرَّات ماسية صغيرة تألقت أسفل شرفة الطابق الثاني السابحة في الهواء مثل صحن طائر يرتكز على عشرات الأعمدة الرخامية، ممَّا منح غرفة المكتب الفسيح إطلالة خيالية وغير متوقعة حقًّا نظرًا لرسمية المكان ورهبته.
كان كل شيء في الغرفة المهيبة يشي بمظاهر الثراء الفاحش والبذخ اللامحدود؛ مكتبة هائلة مصنوعة من الخشب المُطعَّم بالصدف تضم المئات، بل آلاف الكتب والمخطوطات النادرة، أرائك جلدية كلاسيكية باللون البُني المحروق، ستائر نبيذية قاتمة مرفوعة عند زوايا الواجهة الزجاجية الكاشفة، وكانت الجدران مغطاة بورقٍ حائط بارز النقوش والعديد من اللوحات الفنية النفيسة، أمّا السقف فقد ارتفع لينتهي متحدبًّا بقبة أنيقة تزدان بثريا ذهبية أنيقة، تتوسط رسوم مذهلة مستوحاة من لوحة (آلهة الأولمب) للفنان الإيطالي (جوليو رومانو*)، تصوَّر حلقة لولبية من الغيوم تلتف محيط عرش زيوس المهجور حيث يجلس نسره الأثير، ويُحلق زيوس وزوجته هيرا، إلى يسارهم هاديس؛ سيد العالم السفلي، وإلى يمينهم آريس؛ سيد الحرب، ليظهر بعدهم باقِ أسياد الأولمب ابتداءً من إيروس وأرتميس وانتهاءً بهيرالد وهرقل وهيفايستوس وهو يحمل مطرقة ثقيلة على كتفه.
في الواقع كان المكتب إحدى الغرف القليلة التي لم يقم مكسيموس بتجديدها في القصر نظرًا لندرة استخدامه إياه أثناء تواجده بأثينا، وكرهه التواجد داخل المكان الوحيد الذي يحوم فيه شبح ليونايديس الباهت، مُعلنًا أنه كان زائر عابر يمر بهذا المنزل قبل ثلاثة عقود، ممَّا زاد من احساسه اللامرئي بالاختناق وهو يجلس بهدوء مفترس خلف المكتب الأثري ذو السطح المرمري الأخضر والأرجل العريضة يدوية النقوش؛ حذاءه المصنوع من أجود جلود التمساح يطرق الأرضية الرخامية، صعودًا ونزولًا، دون صوت. جسده المتصلب أسفل البدلة السوداء يكاد يلتصق بظهر المقعد العتيق ويصبح جزء منه، قسمات وجهه جامدة وقاسية كأنما يرتدي قناع مقدود من البرونز، عيناه الصقريتان مسلطتان على شخوص لوحة باذخة دون أن يميز منها شيئًا حقًّا، دخان سيجاره يتحلق فوق رأسه الشامخ كأبخرة بركان على وشك الانفجار، وأصابع يده الحرة منقبضة بينما يتشبث بطرف المسند كي يسيطر على أعصابه، ويُحكم نسج خديعته، دون أن يدفعه الغضب المتفجر داخله كملايين الانفجارات الشمسية لأن يفتح دُرج المكتب الداخلي ويستل مسدسه المُلقَّم، ويردي أبناء آوى الخونة الجالسين أمامه بتزلف كلاب شارع تتسول رضا جزار الحي!
![](https://img.wattpad.com/cover/253386942-288-k512199.jpg)
أنت تقرأ
{سيمفونية الجليد والنار } ـ ج3 أسرار خلف أسوار القصور ـ Noor1984
Romanceسيمفونية الجليد والنار الجزء الثالث سلسلة اسرار خلف أسوار القصور كتابة وتأليف: Noor 1984 تصميم الغلاف والقالب الداخلي: Gege86 دار نشر منتديات شبكة روايتي الثقافية - قلوب أحلام الغربية https://www.rewity.com/forum/t478760.html روايات غربية بقلم noor1...